هذه الحلقات المتتابعة في أفكارها، القصيرة في مبناها، هي مجرد مُمَهِدَات مقدمة إلى الحركة الإسلامية في بنائها الجديد المنتظر، فأغلب أبناء الحركة والمتابعين لها يؤكدون ضرورة تجديد البناء، والتجديد في فكرنا الإسلامي وتراثنا يرتبط بتغيير الأفكار لا بتغيير الهياكل أو الشكل فقط –وإن كان ذلك مطلوبًا في وقت ما- ومن ثم جاءت هذه المُمَهِدَات المعرفية، وهي عبارة عن استبطان ذاتي لمن يهتم بأمرها وشأنها وما زال، يؤلمه ألمها، ويحزنه ما صارت فيه وإليه؛ لذا فهو يعتبر هذه الرؤية أو هذه المُمَهِدَات المعرفية من رؤية للإصلاح من الداخل وليس من الخارج.
خط السير.. مرحلة اليقظة
مرت حركة الإصلاح الإسلامي -في تقديري- بثلاث مراحل أساسية:
المرحلة الأولى:
يمكن أن نطلق عليها مرحلة اليقظة/ البعث/ النضال، وهي المرحلة التي فوجئ فيها العالم الإسلامي بسقوط الخلافة وسقوط النظم الإسلامية وحلول النظم العلمانية بديلاً عنها في ظل حالة من جمود العقل المسلم ورثها في القرون الأخيرة نتيجة لعوامل سياسية وتاريخية وسننية، ومن ثم كان احتياج الفكر الإسلامي إلى أمرين؛ الأول: هو البحث عن أسباب السقوط الداخلية (المدخل السنني لفهم الأزمة الحضارية)، والأمر الثاني: بعث فكرة الأمة مرة أخرى في نفوس المسلمين في مواجهة الدولة القُطرية التي مزقت فكرة الأمة على المستوى الواقعي والعملي، ومن رواد هذه المرحلة جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا (1865-1953م)، وحسن البنا، وهذا له شرحه فيما أنتجوه من أفكار تلبي هذين الاحتياجين السابقين “الفهم السنني للأزمة الحضارية”، و”بعث فكرة الأمة في نفوس المسلمين” التي كادت أن تتفكك على مستوى التصور الذهني للمسلم أيضًا، ومن أهم الأفكار الكلية التي طرحها هؤلاء الرواد في هذه المرحلة التي شكلت مسارًا فكريًا أساسيًا لحركة الإصلاح –فيما بعد- هي ما يلي:
1- نقض العقيدة الجبرية التي استسلم لها العقل المسلم ردحًا من الزمن كمسوغ لحالة التدهور الحضاري التي أصابته.
2- بعث الفكرة الإيمانية في نفوس المسلمين أو العقيدة الدافعة طرح برنامج “الإيمان المجسد”.
3- الوعي بمخاطر الفكرة الغربية في كلياتها الأساسية وإشاعة التوعية بذلك.
4- التفكير في موضوع الأمة كموضوع وجودي وليس خيارًا أو ترفًا نظريًا.
المرحلة الثانية:
التي يمكن أن نطلق عليها مرحلة الرؤية/ بلورة المشروع الحضاري في كلياته/ أو التأسيس لبناء مشروع حضاري لأمة الشهود.
اتسمت هذه المرحلة بطرح الرؤى الكلية للمشروع الحضاري الإسلامي وبيان ملامحه، وهذا تطلب من روادها أمرين أساسيين، الأول: هو بيان موضوع الخلل الحقيقي في الأمة، والثاني: المقارنة بين مبادئ وكليات ومنطلقات الفكرة الإسلامية ونظيراتها الغربية التي تفوقت في الواقع العملي لأنها امتلكت الفاعلية الحضارية، ومن ثم فقد اعتمدت هذه المرحلة منهجين متكاملين هما التفكيك والتركيب؛ التفكيك لأسباب الأزمة الحضارية بصورة أكثر تحديدًا وإعادة تركيبها في ضوء النظرة القرآنية الشاملة، وأيضًا تفكيك النموذج المادي الغربي المهيمن على الحضارة المعاصرة وبيان عجزه الذاتي والخارجي في التعامل مع الظاهرة الإنسانية من منطلق الفطرة والمساواة والعمران الإيجابي، وضرورة البحث عن نموذج بديل يتوافق مع تلك الفطرة ويعتقد في المساواة الإنسانية، ويرسي قواعد العمران الإنساني الإيجابي، ويمكن الإشارة إلى أربعة رواد أساسيين في هذه المرحلة هم: مالك بن نبي، محمد باقر الصدر، علي شريعتي، إسماعيل الفاروقي.
يطالعنا مالك بن نبي (1905-1973م) بفكرة العوالم الثلاثة كأساس لتحليل مشكلات الحضارة، وفي الوقت نفسه تحليل عناصر النهوض من خلال تهيئة هذه العوالم الثلاثة (عالم الأشخاص، وعالم الأشياء، وعالم الأفكار)، وقد انصب مشروعه الحضاري على تنقية عالم الأفكار مما علق به من شوائب عصر التراجع الحضاري والموروث، وضخ أفكار للنهوض محورها “الإنسان المسلم” وإعادة بنائه وفقًا لوظيفته الاستخلافية والأمانة المكلف بأدائها، وطرح ذلك تحت عناوين “مشكلة الأفكار”، “شروط النهضة”، “فكرة كمنويلث إسلامي”، وغيرها مما طرح تحت عنوان “مشكلات الحضارة”.
أما محمد باقر الصدر (1935-1980م) فقد انشغل بالمواجهة مع الفلسفة المادية الغربية والتأسيس للنموذج المعرفي التوحيدي الذي نتج من تفكيكه للنموذج المعرفي الغربي المادي، ومن أهم كتاباته في هذا الصدد “فلسفتنا”، “اقتصادنا”، “الأسس المنطقية للاستقراء”، “المدرسة القرآنية”، “الإسلام يقود الحياة”، وغيرها من الكتابات التجديدية التي أرست مساراً مهماً في حركة الإصلاح الإسلامي المعاصر.
أما علي شريعتي (1933-1977م) –أحد أركان هذه المرحلة- أعلن أن المشروع الإسلامي الذي لا بد وأن يكون شعاره “العودة إلى الذات”، وقد انشغل بالمواجهة والتأسيس للمشروع الحضاري الإسلامي على عدة جبهات: جبهة “رجال الدين” وإرثهم الفكري المنحرف، وجبهة “المنهج” بطرح أفكاره حول منهجية معرفة الإسلام، وأكد ضرورة إعادة اكتشاف الإسلام مرة أخرى من قِبل المسلمين، وجبهة “الوعي”، فالناس- عنده- هم المُناط بهم حركة التغيير وليس القادة أو الأنبياء، وجبهة “مؤسسية الفعل الحضاري” كما ظهر في برنامجه نحو إعادة بناء العلوم الإنسانية الإسلامية وتجديدها في مؤسسة “حسينية إرشاد”.
والركن الرابع في هذه المرحلة هو مشروع إسلامية المعرفة، الذي رأي أن تجسيد فكرة “التوحيد” الإسلامية لا يأتي إلا عبر برنامج تربوي لتنشئة هذه الأمة وتعليمها، فعمل على إعادة اكتشاف “النموذج المعرفي التوحيدي” في منطلقاته ومبادئه ليمثل مدخلًا معرفيًّا للإصلاح التربوي الحضاري في العالم العربي والإسلامي وأسس ورفاقه المعهد العالمي للفكر الإسلامي (1979م) ليكون تجسيدًا وتأسيسًا لحركة الإصلاح المعرفي في الأمة، من أجل بلورة رؤية حضارية للأمة وإصلاح مناهج أفكارها وإعادة بناء الشخصية المسلمة.
المرحلة الثالثة: خلاصة مشاريع
عطف على ما سبق من تناول أربعة رواد مثلوا أضلاع المرحلة السابقة، وهم: مالك بن نبي (1905-1973م)، محمد باقر الصدر (1935-1980م)، علي شريعتي (1933-1977م)، إسماعيل الفاروقي (1921-1986م)، نطرح هنا خلاصة أفكار هذه المرحلة كما يلي:
أولًا: تقديم مشروع حضاري بديل للمشروع الحضاري الغربي المهيمن ويتطلب ذلك:
الوعي بعوامل الخلل الداخلي (بنية العقل المسلم، برنامج التنشئة التربوي، الإرث الثقافي)، وكان قد تم التركيز في المرحلة الأولى على العوامل الخارجية التي أدت إلى الارتداد الحضاري الإسلامي (الاستعمار).
تفكيك النموذج المعرفي الغربي ونقض منطلقاته الفكرية العنصرية والتخريبية للإنسان والكون ونقد آلياته، وهذا في ذاته مدخل ضروري لبناء نموذج حضاري إسلامي بديل وهو ما تم في هذه المرحلة وتتابع بعدها بصورة واضحة ودقيقة.
ثانيًا: تحديد المفاهيم أو إعادة بناء المفاهيم الحضارية التي تمثل لبنات المشروع الحضاري الإسلامي، وقد دارت هذه العملية حول ثلاثة محددات أساسية ظهرت بشكل بارز في الإنتاج الحضاري لرواد هذه المرحلة وهي:
إعادة بناء مفهوم “الدين” – باعتباره الطاقة الأساسية والمحركة للعالم الإسلامي– ومن العلماء والفقهاء المتحدثين باسمه عبر تاريخ فكري طويل وإبراز التقاطعات بين الاثنين “الدين” و”رجال الدين”، والاختلافات والتباينات لا سيما فيما يتعلق بالغاية من الدين وهدفيته.
تحديد مفهوم “الآخر” وتراثه وما يتصل بهذه المسألة من الانعزال أو الانفتاح عليه والوعي بطرق ووسائل الأخذ والترك، والقبول والرفض والاستيعاب والتجاوز.
إحياء مفهوم “الأمة القطب” الأمة الجامعة لكافة المذاهب والأفكار والأعراق في إطار حضاري يقوم على التعدد والتنوع الخلاق في مقابل التجزئة والتفتيت والأحادية والجمود.
ثالثًا: الاستمرار في مساري المواجهة الخارجية (عمليات الاستلاب الفكري)، والداخلية (الانشداد نحو أفكار الجمود والتقليد).