ذكَّرتني صرخة “جورج فلويد” (George Floyd) -الأمريكي من أصل أفريقي- “لا أستطيع التنفس” التي مات على إثرها، يوم 25 مايو 2020م، خنقاً بضغط على رقبته من قِبَل شرطي أمريكي، ذلك ذكَّرني بالمشهد التلفزيوني في مسلسل “الجذور” بصرخة الأفريقي المسلم “كونتا كنتي”: “إني أختنق”، عندما خنقه سيده الأبيض بحبل من أجل أن يرغمه على تغيير اسمه إلى “توبي”.
و”كونتا كنتي” الذي ولد عام 1750م في غامبيا من مدينة “جوفور”، اعتقل وعمره 17 عاماً، في 5 يوليو 1767م، وتم ترحيله إلى أمريكا (أنابوليس) مع 140 شخصاً تم القبض عليهم في الأدغال من قبل تجار العبيد مات منهم 60 في الطريق بالبحر، ووصل إلى أنابوليس ماريلاند في 29 سبتمبر 1767م، ثم تم بيعه إلى عائلة بورجوازية بقيمة 750 دولاراً، يوم 7 أكتوبر.
وقد حاول الهرب مراراً من سيده الأبيض؛ حيث قام مالكه بقطع رجله، وعالجته امرأة سوداء اسمها “بيل”، وهي طباخة المالك واسمه “ويليام”، وتزوج منها وأنجب طفلة اسمها “كيزي” التي انحدر منها نسله لأجيال إلى الحفيد “أليكس هيلي” الذي تتبع جذور أجداده في قصة سطرت كملحمة في الأدب الأمريكي، وتم عرضها في مسلسل تلفزيوني عام 1976م، توفي “كونتا كنتي” عام 1810م في مقاطعة سبوتسلفانيا.
هذه القصة رسخت في ذهني منذ أن شاهدتها في حلقات “الجذور” التي عرضت منتصف السبعينيات، ثم تابعت قراءة هذه القصة بعد إصدارها، حيث ألفها رواية أحد أحفاده وهو “أليكس هيلي” (1921-1992م)، مؤلف كتاب الجذور: ملحمة عائلة أمريكية” (Roots: The Saga of an American Family)، نشرت عام 1976، وحاز مؤلفها على جائزة “بوليتزر” عن فئة الجوائز الخاصة، حيث تتبع “أليكس هيلي” تاريخ عائلته إلى جده “كونتا كنتي”.
وعندما تزور مدينة “أنابوليس” التاريخية، ستجد في وسطها النصب التذكاري لـ Kunta Konte – Alex Haly Memorial يصور ماريلاند بالكلمة والرمز وانتصار الروح البشرية.
إنه النصب التذكاري الوحيد من نوعه في الولايات المتحدة الذي يحتفل بالاسم الفعلي ومكان وصول الأفارقة المستعبَدين.
إن هذين الحدثين ما بين عام 1767 ومايو 2020م يطوفان بالمرء حول قرون من الاسترقاق والاستعباد لملايين من الأمريكيين من أصل أفريقي، ولتضعنا اليوم إلى فهم جذور ما حدث يوم 25 مايو 2020م، وحجم رد الفعل من المظاهرات والعنف التي ما زالت مستمرة في أغلب الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا أردت أن تفهم القصة بشكل تحليلي فيمكنك مشاهدة فيلم مختصر من إنتاج “أنجس وول” (Angus Wall)، و “جيسون ستيرمان” (Jason Sterman) الذي يعرض حالياً على موقع “نتفلكس” (Net flex) بعنوان “13th“.
الذي يسرد تاريخياً وتحليلياً من خلال مقابلات لمجموعة من الخبراء والأكاديميين ومناهضي العنصرية وساسة ومحامين جذور مشكلة نهاية عصور الرق والعبودية التي بدأت مع استقدام العبيد في أول مستعمرة وهي “فرجينيا” عام 1619م في سفينة تحمل 20 عبداً أفريقياً.
فقد قام هؤلاء الخبراء بتوثيق وتحليل مشهد العنصرية المتأصل في المجتمع الأمريكي الذي كان بسبب التعديل الثالث عشر الذي أجري على الدستور الأمريكي الذي أقر كنتيجة للحرب الأهلية (1861 – 1865م)، وانتصار الشمال على الجنوب، ومن أجل إعادة إعمار الجنوب، وتم إقراره؛ حيث ألغى التعديل الثالث عشر في دستور الولايات المتحدة الأمريكية العبودية والاسترقاق الجبري إلا ما يطبق منها كعقوبة على الجرائم، وفي الكونجرس الأمريكي أقر مجلس الشيوخ هذا التعديل في الثامن من أبريل 1864م، وأقره مجلس النواب في 31 يناير 1865م، وكان أحد التعديلات الثلاثة ضمن تعديلات إعادة الإعمار المدخلة بعد الحرب الأهلية الأمريكية على الدستور، وكان انتصاراً لإعلان تحرير العبيد عام 1863م، حيث وصل عدد الولايات المؤيدة 27 ولاية فتم إقرار التعديل.
ولمواجهة القوانين التي أعطت حقوقاً لتصويت السود، فقد سُنت قوانين الفصل العنصري التي سميت بقوانين “جيم كرو”، وهو “الوصف التحقيري لزنوج أمريكا” خلال فترة إعمار الولايات المتحدة بين عامي 1865 و1877م، حيث قدم القانون الاتحادي حقوقاً مدنية للمعتَقين في الجنوب وللأمريكيين الأفارقة الذين كانوا عبيداً في السابق.
ولكن بعودة الديمقراطيون البيض للسلطة تدريجياً في الولايات الجنوبية بداية من عام 1870م بالانتخابات، وباستخدام عصابات ترهيب ضد السود “منظمة كو كلوكس كلان” (K.K.K)، وبنجاحهم سحبوا القوات الفيدرالية من الجنوب، وأقرت حكومة الحزب الديمقراطي قانون “جيم كرو” لعزل السكان السود عن البيض.
وفي عام 1880م، قيدوا عملية الانتخابات للسود، وفي عام 1890م أقروا قوانين رفع الضرائب لمن يريد التصويت، فلم يستطع السود والبيض الفقراء ذلك؛ وبذلك فقدوا قدرتهم عن التمثيل في هيئات المحلفين أو في المكاتب المحلية ولا التأثير في الهيئات التشريعية، فتم تجاهل كل مطالبهم، وأصبح فصل الأمريكيين السود في كل مناحي الحياة وأماكن العمل أمراً مشروعاً، وظل هذا القانون فعالاً ما بين عامي 1890 و1920م، وأصبح فصل السود ثقافة أمريكية.
ومنع السود عامة من التصويت، في حين أعفي البيض الفقراء من الضرائب والقيود.
ولكن حدثت نقلة كبيرة مع بداية القرن العشرين، وذلك بواسطة فيلم “Birth of A nation” (ولادة أمة)، وهو الحدث السينمائي والمؤثر الذي حقق مبيعات عالية؛ حيث جسَّد الفيلم النظرة التي أراد الكثير من البيض أن يروها بشأن الحرب الأهلية وتبعاتها لمحو آثار الهزيمة.
وقد قام الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون”، الرئيس الـ28 آنذاك من عام 1913-1921م، بعرضٍ خاصٍ لهذا الفيلم في البيت الأبيض وقال: إنه “تاريخ مكتوب بالرق”.
حيث خلق هذا الفيلم خيالاً في المجتمع الأمريكي؛ فكل صورة تراها لشخص أسود تصوره على أنه كائن منحط وشبيه بالحيوان، وأنه تهديد للنساء البيض.
كما أن الفيلم مسؤول عن ولادة جماعة “كو كلوكس كلان” (K.K.K) من جديد التي تأسست في ولاية بولاسكي (تينيسي) عام 1865 على يد 6 ضباط في الجيش، وكان هدفهم معارضة تحرير العبيد التي حدثت بعد الحرب الأهلية الأمريكية، ودُمرت هذه المنظمة على يد الرئيس “غرانت” عام 1871، لكنها عادت للظهور عام 1915 متأثرة من فيلم “ميلاد أمة”.
لذلك فقد تحول الفن إلى واقع بكل معنى الكلمة.
وكان تأثير الفيلم يمتد أبعد بكثير من مجرد فيلم من مرحلة الأفلام السينمائية الأولى.
وجاءت موجة جديدة من الإرهاب، وجرت إعدامات من دون محاكمة بين حقبة إعادة البناء والحرب العالمية الثانية، وقتل آلاف الأمريكيين من أصل أفريقي على يد جماعات في ظل فكرة أنهم ارتكبوا جريمة ما.
في المؤتمر الوطني الديمقراطي في نيويورك عام 1924م، يقرر بأن 350 مندوباً كانوا ينتمون إلى “كلو كلوكس كلان”.
لقد نمت المنظمة وبلغ عدد أعضائها عام 1924م حوالي 6 ملايين، ثم في بداية الثلاثينيات بدأت بالتفكك إلى عام 1940م، حيث تم تفكيك المنظمة وحدثت انشقاقات بين أعضائها، واتجهوا ما بين عامي 1940 و1950م لقتل أعضاء في منظمات حقوق الإنسان إلى عام 1999م، حيث تم الإعلان أنها منظمة إرهابية.
ولقد تحولت الحالة العنصرية المتأصلة في قطاعات كبيرة من المجتمع الأمريكي إلى حالة جديدة من التلاعب السياسي من أجل تحويل حالة الخوف من الجريمة إلى زيادة فيما يسمى بصناعة السجون في العقود ما بعد حركة الحقوق المدنية التي أطلقت عام 1964م.
حيث أدى امتزاج الخوف الاجتماعي بالمصلحة السياسية والمنفعة المادية للشركات الكبرى والرأسمالية في المجتمع الأمريكي، وأدى ذلك إلى حالة من التلاعب السياسي والتقنين التشريعي من أجل صناعة السجون المزدهرة التي وضعت أجيالاً من المجتمع الأمريكي الأفريقي في السجون بحجة الجريمة، ولكن في الحقيقة هي إعادة نزع الحرية والاسترقاق والعبودية.
وللحديث بقية.
يتبع..