يتذكر العالم كله الشاب محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه يوم 17 ديسمبر 2010 في منطقة سيدي بوزيد وسط تونس؛ احتجاجا على سوء معاملته من قبل السلطات المحلية ومنعه من العمل كبائع خضار متجوّل، في ظل نظام بن علي الذي تربع على عرش السلطة لمدة 23 سنة (1987-2010) خلفا لبورقيبة الذي حكم تونس لمدة 30 سنة (1957-1987) تحت نظام الحكم الفردي والحزب الحاكم المستبد.
شرارة الربيع العربي
وتتميز التجربة التونسية باعتبارها الأولى التي أطلقت شرارة ما يسمى “الربيع العربي”. وتبعت تونس بلدان عربية أخرى، لكن التجربة التونسية هي الوحيدة التي استطاعت أن تصمد إلى اليوم في وجه الأمواج العاتية من الداخل والخارج.
وفي حين اعتبرها البعض تجربة رائدة لشعب انتفض ضد الظلم والقهر والاستبداد، نظر إليها آخرون باعتبارها تندرج في إطار مؤامرة حيكت من قوى خارجية لتقويض العالم العربي ومن ورائه الأمة الإسلامية بحجة الخصومة الحضارية بين الغرب والعالم الإسلامي بعد سقوط الإمبراطورية السوفياتية.
وبمرور الأيام أثبتت تجربة الربيع العربي أنها من صميم إرادة الشعوب التي انتفضت في وجه الظلم والتبعية، وطالبت بالحرية واستقلال القرار والعيش الكريم. لكن الطريق كانت ولا تزال شاقة وطويلة في ظل وضع إقليمي ودولي مضطرب بسبب إصرار القوى الكبرى على سياسة الهيمنة العالمية ورفض منافسين لها، في الوقت الذي ظهرت كيانات وقوى جديدة تسعى إلى الضغط من أجل التعامل بنديّة بين مكونات النظام العالمي.
ومما زاد الأمر تعقيدا أن الربيع العربي أفرز في جل الحالات مشهدا سياسيا أربك القوى الكبرى، حيث تمكنت أحزاب إسلامية تحمل الفكر الوسطي المعتدل والمنفتح من تصدّر سلطة القرار في بلدها عن طريق اقتراعات نزيهة وشفافة كما حصل في مصر وتونس. فجاء الرد حاسما في مصر بالانقلاب على أول حاكم مدني في هذا البلد والإطاحة به، في حين لم تتوقف المؤامرات الخارجية عن محاولة إفشال التجربة التونسية.
تحدّي العلمانية الإقصائية
في هذا السياق، يمكن فهم حجم التحديات التي تعيشها تونس اليوم بعد عشر سنوات من الثورة على نظام بن علي؛ إذ لم تستسغ أحزاب علمانية من اليمين واليسار -متواطئة مع قوى خارجية- تصدُّر حركة النهضة للمشهد السياسي في بلد استُخدم -بحكم صغر حجمه وبحكم موقعه الاستراتيجي- منذ أكثر من خمسين سنة كمخبر لتجارب عدة أهمها وأخطرها التغريب على المستويين التصوري والسلوكي، واستنساخ الأنموذج الغربي بحلوه ومرّه.
والنتيجة إفراز جيل متغرّب وعلماني من النخب السياسية والفكرية المنبهرة بـ”حداثة” الغرب، وتنظر إلى الدين نظرة احتقارية واشمئزازية، وتَعتبر أن حمَلة الفكر الإسلامي مكانهم المساجد وليس السلطة وصناعة القرار.
ومثلُ هذا التصور دليل على استنساخ بعض النخب التونسية للعلمانية على الطريقة الفرنسية في شكلها الأيديولوجي الحالي الذي يسعى إلى إقصاء الدين وكل مظاهره من الحياة والمجتمع، وهو ما يفسّر أزمة التعامل الفرنسي الحالي مع الحضور الإسلامي في فرنسا، وما يفسّر أيضا عمق التحديات التي تشهدها تونس اليوم في ظل تواجد أحزاب علمانية إقصائية مؤثرة رغم ضعف شعبيتها لكنها استطاعت أن تتحكم -إلى حدّ كبير- في مفاصل الدولة خلال حكم بن علي، واستغلت فضاء الحريات والديمقراطية بعد الثورة، وهشاشة التجربة التونسية، وعدم اكتمال الوعي الشعبي بالرهانات السياسية الداخلية والخارجية لتعطيل مسيرة الانتقال الديمقراطي بطرق مختلفة تُقوّي الشعبوية وتُضعف مؤسسات الدولة.
تحدي الثورة المضادة و”الدولة العميقة“
ومن بين الطرق التي تستخدمها الثورة المضادة التشويه الإعلامي، وتعمّد خطاب محبط بتكرار فشل الأحزاب الحاكمة، وإثارة صراعات مفتعلة داخل البرلمان؛ لأن رئيسه الأستاذ راشد الغنوشي هو رئيس حزب النهضة، وتحريك الشارع بمطلبية غير مسبوقة عن طريق الاعتصامات، وتعطيل المرافق الحيوية، والوقوف بالمرصاد لكل تقارب مع قطر أو تركيا، وتفسيره بـ”سياسة الاصطفاف للمحور الداعم للإسلام السياسي”.. بل وصل الأمر ببعض قياديي هذا التيار إلى توجيه نداء إلى رئيس الدولة الأستاذ قيس سعيد لحل البرلمان، وتنظيم استفتاء لمراجعة النظام الحالي القائم على توازن السلطات بين التشريعي والتنفيذي بغية العودة إلى النظام الرئاسي القديم بصلاحيات كبيرة لرئيس الدولة على حساب البرلمان. كما وصل الأمر ببعضهم إلى الدعوة لانقلاب عسكري على الطريقة المصرية.
ونتيجة لكل هذه المحاولات الهادفة لتعطيل المسار الانتقالي وإضعاف مؤسسات الدولة، يضاف إليها تداعيات أزمة كورونا، تعيش تونس اليوم مرحلة حرجة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. كما أنتج الخطاب التشكيكي في قدرات القوى الحاكمة والزعم القائل بفشلها أجواء نفسية يسودها اليأس من التغيير نحو الأفضل والحنين إلى الماضي وعهد بن علي وتفضيل الاستبداد على الاضطراب السياسي وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية.
البحث عن حلول
لكن اللافت للانتباه أن الشعب التونسي في عمومه بقي واعيا بمخاطر تأجيج التوترات والقلاقل التي تحركها ما يسمى بالثورة المضادة والدولة العميقة؛ لذا فإن دعوات عديدة أطلقتها أطراف سياسية ومن المجتمع المدني تضغط في اتجاه البحث عن حلول جادة من أجل الخروج من الأزمة وإجراء حوار وطني يقود إلى الانفراج، وتفويت الفرصة على من يسعون إلى العودة بتونس إلى مربع الاستبداد السياسي.
ولعل إحياء الذكرى العاشرة للثورة يعطي وهجا جديدا للروح التي سادت الشعب التونسي قبل عشر سنوات خلت، والتذكير بأن تونس بلد صغير في حجمه ولكنه بتاريخه العريق (بلد الزيتونة والقيروان وعقبة بن نافع وخير الدين التونسي والشيخ محمد الطاهر بن عاشور وأبي القاسم الشابي..) وبكفاءاته العالية وبموقعه الاستراتيجي قادر على تجاوز التحديات الحالية، وأهمها الأيديولوجية الإقصائية، نحو إرساء ثقافة التعايش المشترك، والقبول بالاختلاف والتعددية في ظل المواطنة ووحدة المصير.