ظاهرة الاستشراق من الأمور التي تؤدي دورا ثقافياً ومحورياً في السياسات الغربية تجاه العرب والمسلمين بشكل ممنهج ومسيّس وغير عبثي لما تصطبغ به من حركة فكرية وثقافية واجتماعية لا يقف حبرها ولا ينضب مدادها، فلكل استشراق نصيبه من التمويل والتأطير والمعرفة ما يضع أمامنا كمسلين في عصرنا تحدياً جد مهم في التعاطي مع ظاهرة الاستشراق القديمة الجديدة.
الحماس والعاطفة في مواجهة الاستشراق
إن الدفاع عن الإسلام والتحمس والحماسة لحمل لوائه في ظل واقع معقد للغاية يتطلب عدة أبعاد سياسية وعلمية وأخلاقية قوية مع من يريد أن يتصدى لهذه المهمة الجسورة، ومن بين ما ينبغي إبعاده عن ساحة معركة يتسلح خصومها بالمعرفة والتشكيك إبعاد العاطفة عن الحكم والتصورات وصبغ الفكر المُواجِه للاستشراق بحجية المنطق والدليل.
السنن الإلهية في ظل عالم معقد متشابك
في ظل ما تشهده ساحتنا العالمية من صراع حضاري إنساني منقطع النظير ولربما لم تشهد الساحة البشرية والإنسانية شدة احتكاك صراع مثل الصراع الحالي الذي نرى معالمه وأقطابه اليوم، يُحَتّم على أصحاب حملة المشاريع الكبرى التي تسعى لإنقاذ الإنسان من التردي والضياع أن يراعُوا مجريات السنن الإلهية والأحداث الكونية، التي تحْكُمُ بشكل مباشر خلفياتِ الصراع والعداء التي فُطِرَ عليها الإنسان في خِلْقَته الأولى وسفكه للدم، وتمتُّعه أحيانا بذلك وَحُبِّ إظهار منطق القوة والتحكم كما أشار لذلك القرآن الكريم في حديثه عن الصراع الإنساني الإنساني في حوار بين الرب جل في علاه مع ملائكته حين قالوا كما يصور لنا القرآن القصة كاملة في سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30)، في هذا المشهد تنعكس صورة من تكوين الغلبة والخراب والدمار في تكوين الإنسان، مع تكليفه ببناء الأرض وإعمارها.
من هذا الصراع تتوالد النظرات الرَّيْبيةُ وتتعدد المفاهيم الكيدية بين بني الإنسان قديما وحديثا، حينما قَتَلَ أولُ ساكني الأرضية هذه أحدهما أخاه غيرةً، أو حسدا جسَّد هذا المشهد حالة الإنسانية اليوم التي يقتل البعض فيها من يشترك معه في الجِيرة والوطن وغير ذلك من المشترَكات الحياتية التي نعيشها اليوم.
إلا أن الصراع سلك مسَالك مختلفة حيث انتقل من طوره السابق إلى ساحة الفكر لتصل المعركة وتتسع رحاها في صراع الأفكار والطبقات، وتمس الدين وتظل في ميادينه متفجرة، دفاعية وهجومية وتشكيكية بين الدين والإنسان من جهة.
التشكيك في المصادر دون حجة “سمة جديدة للمستشرقين الجدد”
منذ مدة والغرب يبعث بعوثه ومستشرقيه إلى ديار الإسلام، نهلاً من معينها في ظاهر الأمر، حيث العلم والمنطق والفلسفة وعلوم أخرى كثيرة مثل القرآن والحديث تتجه نحوهم السهام، ويُشكَّكَ في مصادر معينة من اللغة تُسهم في فهم الأصول ليطعن فيها أو يشكك في صحة انتسابها ليَحمل لواء ذلك طه حسين في كتابه “الشعر الجاهلي على غرار ما تقتضيه مسلمة قدمها المستشرق مرجليوث” (مالك بن نبي، القضايا الكبرى، ص:168(.
استضعاف بعد قوة
استقوى العالم الغربي على جاره الشرقي المسلم واستفاد من تراثه الزاخر بالمعارف والزخارف الإسلامية في مجالات العلم والفن كما جسدت مدن الأندلس وغيرها دون ردِّ أدنى اعتبار أو اعتراف بجميل لعلماء الإسلام أو احترام مقدساته ومسلماته التي صَحَّت سندا ومتنا ومنطقا لقرون طويلة بشهادات من غريبين وغيرهم.
الاستشراق وتغريب المفاهيم
مع تلك الرحلات الاستشراقية تغيرت معادلات ثقافية عدة، ليصبح التشكيك في الدين الإسلامي ميزة معرفةٍ وتحضرٍ وأن يتحول التدين إلى تخلف لتصبح كل مشكلة ثقافية سببها الدين الوجودي دون مراعاة أبسط معايير المنهج والتعليل، فقد تعددت مظاهر التبعية العمياء في المفاهيم والأفكار ولكن ذلك لن يطمس الحقائق أو يغير المفاهيم المتأصلة في النفوس الفطرية الحية.
استشراقية المفاهيم
أصبح الاستشراق في أشكال متعددة من الثقافة واللغة والإعلام والسياسة وغيرها من ميادين الحياة حتى صار مثقفنا العربي مستشرقاً في دياره ومنهجنا التعليمي استشراقياً في مراحله ونظمه وتسمياته وشهاداته، المستشرقون الجدد في الديار الإسلامية ينظرون إلى الغرب ليستمدوا منه قيَمَهم ويستنسخوا منهم مجتمعهم بشكل مفرط دون مراعاة الخصوصية الثقافية وطبيعتها.
استشراق ما قبل الاستقلال
بعد الحرب العالمية الثانية تطورت النظرة الاستشراقية لتلتفت إلى ضرورة التقسيم وفق مخطط استشراقي يجعل الطائفية والاستبداد في بلادنا عقبة، في غياب شبه تام للزعامة السياسية للعالم الإسلامي واستعمرت الأفكار الاستشراقية عالمنا في ظل ضعف فكري وعلمي شديد.
وهكذا فعندما يحطم الاستعمار فكرة معينة، نرى الفكر عندنا عاجزاً عن جمع شتاتها، في عملية ذهنية واحدة تعيد إليها وحدتها ومغزاها ونراه عاجزاً أيضاً للسبب نفسه عن اكتشاف التزييف عندما يخلق الاستعمار فكرة مزيفة ليروجها في سوق السياسة العاطفية (مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، ص107).
لقد خَلَّف الاستشراق وراءه في بلادنا العربية والإسلامية الضعف وتلك طبيعة المنهزم لتوه في معركته السياسية والعلمية والحضارية ليصبح الانبهار سيِّدَ موقفنا والتَّعلُّقَ بما يقدِّمُ مناطَ المعرفة، في انقلاب تام للقيم والموازين لم تدركه نخبتنا السياسية والدينية المعاصرة لذلك ما جاء من قيم في أشكال استشراقية: “أرانا تبهرنا هذه القمم الشامخة ونتيه في عالم الخيال حين تذكرها أقلام المستشرقين، وإن نكرتها يعترينا مركب النقص، في كلتا الحالتين تصب هذه الدراسات في روحنا حرماناً مزدوجاً، لا نستطيع التخلص منه إلا إذا تذكرنا السلم الذي وضعه المفهوم القرآني ليتسلقه الفكر الإنساني حتى يصل على درجاته إلى تلك الإنجازات العلمية التي تهيمن حتى اليوم على التقدم التكنولوجي” (مالك بن نبي، القضايا الكبرى، ص193).
إنها الهزيمة الثقافية مخلفة وراءها تردياً معرفياً وفكرياً وأخلاقياً وجفاء بين سكان مناطقنا الإسلامية، وتبعية في الفكر قاتلة للنهوض والحركيَّة الحضاريَّة في البناء والتطوير.
ما زال الاستشراق حتى اليوم يمارس طعناته ويردد حججه الباهتة الواهية في ميادين الفكر والعقيدة والقرآن للتشكيك في قدرة الإسلام واستمراريته مرتكبا بذلك أخطاء منهجية وعلمية في قراءاتها التاريخية المزدوجة لتاريخ الإسلام ونظرته الاستصغارية للمسلمين وفرض تصورات على أنها حقائق ليطمس بذلك على الدين الباقي.
لم يكن المستشرق لويس التاسع وحملاته على مصر وفلسطين وغيرهما من بلاد العرب والمسلمين إلا نموذجاً من حملات الاستشراق التي يسعون من خلالها لتحقيق أهداف استشراقية لضرب الإسلام في معاقل دياره واستنساخ غيره محلَّه في ظل غياب للسياسات التصحيحية لوضعية كهذه وكذلك الدراسات المقابلة لنوايا الاستشراق وفكره بشكل جاد ومحايد.