من بين الأفكار الرائجة، أن علاقة الإسلام بأوروبا حديثة ومرتبطة بتوافد مجموعات من المهاجرين من البلاد العربية والإسلامية في الستينيات، في حين أن اللقاء التاريخي بين الإسلام وأوروبا له جذور عميقة.
في هذا المقال، نحاول متابعة مسار هذه العلاقة منذ فجر الإسلام إلى اليوم.
مراحل استقرار الإسلام في أوروبا
تم استقرار الإسلام في أوروبا على مراحل يكمّل بعضها بعضاً في عملية تراكمية للعطاء الحضاري الإسلامي بهذه القارة التي كانت لها مع الإسلام والمسلمين محطات تاريخية تراوحت بين الصّدام والوئام.
ويمكن تقسيم عملية استقرار الإسلام في أوروبا إلى مرحلتين كبريين؛ استقرار مرتبط بمرحلة الانتشار في عصور الفتوحات، واستقرار ناتج عن موجات الهجرة بعد الحرب العالمية الثانية ومردّه إلى الحقبة الاستعمارية، وظروف ما بعد الاستقلال.
بيزنطة امتداد للإمبراطورية الرومانية
بيد أن العلاقة المباشرة بين أوروبا والدين الإسلامي التي تمت عن طريق الفتوحات الإسلامية منذ العهد الأموي، سبقتها أو مهّدت لها علاقة غير مباشرة عن طريق التدافع بين دولة المدينة من ناحية والإمبراطورية البيزنطية من ناحية أخرى التي كانت في واقع الأمر امتداداً للدولة المسيحية في أوروبا، وتكفي الإشارة إلى أن الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول هو الذي حوّل مدينة بيزنطة التي تأسست عام 658ق.م وكانت من قبل قرية للصيادين، إلى عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية (الإمبراطورية البيزنطية) وذلك عام 335م، وأطلق عليها اسم قسطنطينية نسبة للإمبراطور قسطنطين الأول مؤسس الإمبراطورية، وأصبحت المدينة مركز المسيحية الشرقية.
وتتزامن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية القرن السابع (سنة 610م) مع تواجد دولتين كبيرتين في الشرق، الدولة البيزنطية المسيحية والدولة الفارسية الساسانية (إيران والعراق حالياً)، تقوم العلاقة بينهما على التنافس والصراع، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في سورة “الروم”.
في المقابل، كانت الجزيرة العربية غارقة في الوثنية والجاهلية والقبلية في بيئة جغرافية قاسية وصحراء قاحلة، لذا لم تكن محل أطماع خارجية، بل كانت هناك علاقات تجارية بين العرب والشام التي كانت جزءاً من الدولة البيزنطية، وكان المسلمون أقلية مضطهدة في مكة؛ لذا لم يكن هذا الدين الجديد يشكل للدولتين الكبيرتين مصدر قلق، علماً بأن المسلمين نجحوا في الفترة المكية في ربط علاقات تحالف مع النجاشي الملك المسيحي العادل في الحبشة بالقارة الأفريقية، ولكن الحبشة في ذلك الوقت دولة مسيحية عادلة ومستقلة عن الدولة البيزنطية الظالمة.
دولة المدينة وتغير موازين القوى
واستمر الوضع كذلك حتى جاءت الهجرة من مكة إلى المدينة عام 622م وقيام أول دولة للإسلام هناك، وما يعنيه من بداية انتشار هذا الدين الجديد، أحدث بروز قوة ثالثة في المنطقة إرباكاً لموازين القوى السائدة في ذلك العهد الذي كان قائماً على قطبية ثنائية بين الفرس والروم، وبدأ التخوف من التوسع الإسلامي، خاصة وأن العديد من القبائل المتواجدة في محيط المدينة المنورة حوّلت ولاءها للدولة الإسلامية بعد أن كانت لعقود طويلة موالية للدولة البيزنطية، وسرعان ما تحول التخوف إلى مؤامرات من أجل إسقاط هذا الكيان الجديد، فكان قتل الحارث بن عمير الأزدي، سفير الرسول إلى القيصر، سبباً في معركة “مؤتة” التاريخية في السنة الثامنة للهجرة، ثم كانت معركة “تبوك” في السنة التاسعة الهجرة التي أراد فيها هرقل الروم القضاء على دولة الإسلام، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ليترك الطغيان يتنصر على دعوة الحق والسلام، وأثبت أن الإسلام لا يمنع حرية الاعتقاد (لا إكراه في الدين)، بل يجد له متنفساً في الحرية المسؤولة، ولا يعادي أهل الكتاب المسالمين بل تحالف المسلمون مع النجاشي في الحبشة وكانت العلاقة سلمية بين الإسلام والنصرانية.
انتشار الإسلام في عصور الفتوحات
بعد العهد النبوي، ساهمت الفتوحات الإسلامية المتوالية في عهد الخلفاء الراشدين ثم العهد الأموي ثم العهد العباسي في زعزعة كيان القوتين العظمتين، عن طريق السيطرة على مراكز نفوذها وكسر شوكة الطغيان التي تقف سداً أمام شعوبها وتحرمها من التعرّف على حقيقة الرسالة الإسلامية التوحيدية الربانية بعيداً عن كل أشكال الظلم والاستبداد.
ولعل سرعة التوسع في الفتوحات كان من أهم أسبابها –علاوة على الطاقة الإيمانية لدى المسلمين الفاتحين بصدق رسالتهم وإخلاصهم في التفاني من أجلها- ترحيب هذه الشعوب بالفتح الإسلامي الذي جاء ليخلصهم من الاستعباد والقهر.
ولم تكن الفتوحات مجرد صدف، بل كانت تمثل تتويجاً لمسار انتشار الإسلام انطلاقاً من كون أصحابه حملة رسالة ربانية وحملة مشروع حضاري يبشر بالخير والأمان والرحمة للعالمين.
فتح الأندلس في العهد الأموي
لقد كان من ثمرات الفتوحات في العهد الأموي -الذي عقب العهد الراشدي- استقرار الإسلام في الجانب الغربي لأوروبا، وبالتحديد في الأندلس (إسبانيا اليوم).
وتذكر كتب التاريخ أن السبب المباشر لفتح الأندلس عام 711م (92هـ) دعوة من أحد قادة الجيوش المسيحية في إسبانيا للقائد طارق بن زياد المسلم من أصول بربرية الذي كان والياً في طنجة، وللقائد موسى بن نصير الذي كان قائد شمال أفريقيا عن الدولة الأموية، وذلك من أجل حل صراعات بين قيادات مسيحية.
وهذا المثال يدل على مسألتين مهمتين:
– الأولى الصيت الجيد الذي كان يشاع عن المسلمين، على الرغم من الفتوحات التي قاموا بها في الأراضي التابعة للإمبراطوريتين البيزنطية والرومانية، فهو أقوياء ولكنها قوة في الحق والعدل والقسط.
– والثانية أن الإمبراطورية الرومانية -وإن كانت قوية عسكرياً- فإنها لم تكن قادرة على القيام بدور الإشعاع الحضاري، وساد داخلها الصراع على المصالح الخاصة والتنافس على السلطة والجاه والمال، وتراجعت القيم الدينية وتضخمت سلطات رجال الدين والكنيسة الذين كانوا يُعتبرون من الأعيان ومن سادة القوم مع أصحاب الجاه والسلطان من الملوك والحكام المستبدين، أما بقية القوم فإنهم يعامَلون معاملة العبيد أو على الأقل من درجة متدينة في السلّم الاجتماعي.
فالموضوع يتعلق باختلاف منظومتين ثقافيتين وحضاريتين بعد أن حصل انحراف واضح في المنظومة المسيحية التي ابتعدت عن خط النصرانية المهتدية بنهج المسيح عليه السلام، التي تجد آثارها في أسلوب حكم النجاشي في الحبشة، وأصبحت مصالح رجال الكنيسة تتقدم على مصلحة الشعوب، وتهيمن المؤسسات الكنسية على كل مجالات الحياة في زمن تفشت فيه الإقطاعية والاستبداد السياسي.
فتح صقلية وجنوب إيطاليا في العهد العباسي
وفي العهد العباسي، تكونت إمارات مسلمة في مختلف أنحاء الخلافة بعد ضعف مركز السلطة في بغداد، ومن بين هذه الإمارات الدولة الأغلبية في أفريقية (تونس اليوم) التي حكمت من عام 800 إلى 909م واستطاعت أن تقوم بفتوحات وصلت إلى جزر المتوسط وأهمها صقلية التي فتحها القاضي المالكي أسد بن الفرات سنة 827م، علاوة على فتح جنوب إيطاليا، وذلك في عهد أمير الأغالبة زيادة الله بن إبراهيم.
وللعلم، فإن أسد بن الفرات هو صاحب كتاب “الأسدية” في الفقه المالكي الذي ساهم في نشر هذا المذهب بشمال أفريقيا ولكن كان يحمل في نفس الوقت قضية نشر الدعوة الإسلامية.
الإسلام في البلقان وفي قلب أوروبا في العهد العثماني
وفي العهد العثماني، وقبل فتح قسطنطينية على يد محمد الفاتح عام 1453م وقبل تحول الدولة العثمانية إلى خلافة عام 1517م، وصلت الفتوحات الإسلامية منذ منتصف القرن الرابع عشر إلى شرق أوروبا (بلغاريا والمجر..) وإلى قلب القارة الأوروبية وبالتحديد منطقة البلقان التي تضم اليوم البوسنة والهرسك عاصمتها سراييفو، وكان من نتائج هذه الفتوحات دخول شعوب في البلقان إلى الإسلام لأنهم وجدوا في المسلمين محررين لهم من الطغيان الصربي الذي كان مهيمناً على شعوب المنطقة، وهذا ما يفسّر العداء الدفين الذي بقي يكنّه بعض العنصريين الصرب إلى الإسلام والمسلمين، وتجسّد ذلك خاصة في حرب البلقان التي شهدتها أوروبا في التسعينيات ولم تكن سوى محاولة لاستئصال الوجود الإسلامي في المنطقة، ودفع المسلمون ثمناً باهضاً بسبب المجازر التي ارتكبت ضدهم على مرأى ومسمع العالم في القرن العشرين وفي قلب أوروبا وخاصة مذبحة سربرنيتسا في يوليو 1995 التي قُتل خلالها 8372 من المُسلمين البوشناق مُعظمُهم من الرجال والشيوخ والأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 12 و77 عاماً، وتُعد أسوأ إبادة جماعية شهدتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
الفتوحات ترسي الحضارة الإسلامية
لم تكن هذه الفتوحات لفرض الإسلام -كما يظن البعض- بل كانت سبباً لتحرير شعوب من الظلم والطغيان، ولا ينفي ذلك وجود أخطاء وانحرافات ولكنها تبقى استثنائية، والعبرة بالطابع العام لهذه الفتوحات والذي يسوده تميّز أخلاقية الفاتح الحامل لقضية ومشروع حضاري يبشر بالخير والأمان والرحمة للعالمين.
كما أن العبرة بالنتائج، فالفتوحات أثمرت حضارة إسلامية راقية أشعّت على أوروبا التي كانت غارقة في ظلمات القرون الوسطى، ومثلت جسراً مهمّاً لنقل العلوم والتجارب الإسلامية في مختلف مجالات الحياة، عبر الاختلاط بالناس ومشاركتهم همومهم وآمالهم، لأن الحضارة تعني مجموع المعتقدات والأعراف الاجتماعية وحالة التقدم المادي الذي يميّز مجتمعاً ما، وحيثما حلّ المسلمون، تركوا بصمات حضارية ما تزال آثارها شاهدة عليها إلى اليوم.
حضارة علمية وعمرانية في حوض المتوسط
فالأندلس تحوّلت في عهد المسلمين إلى مركز إشعاع علمي وثقافي، كما أن النموذج الإسلامي أو القدوة الحضارية الإسلامية جلب اهتمام الأوروبيين وأصبحت المؤسسات التعليمية قبلة لهؤلاء الأوروبيين الذين اكتشفوا عظمة الحضارة الإسلامية الأندلسية والتي أخذت من المشرق الإسلامي وأضافت إليه إبداعات الفكر الأندلسي.
أما فتح جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا فكان من نتائجه بصمات حضارية شاهدة إلى اليوم أيضاً، حيث أحدث المسلمون هناك نهضة عمرانية واقتصادية، واعتمدوا سياسة الإصلاح الزراعي مما أسهم في زيادة الإنتاج الزراعي، وطوروا أيضاً نظام الري وأدخلوا زراعات جديدة مثل البرتقال والليمون والفستق وقصب السكر والنخيل، وطوروا الملاحة البحرية بعد أن تحول المتوسط إلى منطقة إستراتيجية تحت حكم المسلمين.
أما الفتوحات في منطقة البلقان، فقد كانت سبباً لترسيخ الحضور الإسلامي من أصول أوروبية إلى اليوم، وبالرغم من كل محاولات مسخ هويتهم من طرف النظام الشيوعي في عهد تيتو ومن طرف العنصريين الصرب، فإنهم صمدوا في وجه عملية المسخ، وتشهد منطقة البلقان صحوة دينية واعدة.
ولئن تم القضاء على الوجود الإسلامي في الأندلس بسقوط غرناطة آخر معقل للإسلام فيها عام 1492م، ولئن تم القضاء أيضاً على الوجود الإسلامي في صقلية، فإن الوجود الإسلامي في البلقان يعدّ مكوّناً أساسياً للمسلمين في أوروبا اليوم يضاف إلى المكوّن الآخر من المسلمين الوافدين إلى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما يقود إلى الحديث عن الحضور الراهن للمسلمين في أوروبا.. الواقع والتحديات.
يتبع..