قبل إقلاع الطائرة بدقائق معدودة أحبتِ السيدة الإندونيسية المحجبة أن تُشرك شقيقها فرحتها بالرحلة الجوية التي ربما كانت مسافرة إليه عبرها حسبما قدرتْ وخططتْ وحجزتْ تذاكر برحلة داخل البلاد كفلتْ لها أن تجلس إلى جوار طفليها في ثلاثة مقاعد متجاورة آخرها عند النافذة في يوم السبت 9 يناير الجاري؛ وفي الصورة الفتوغرافية التي أخذتها بهاتفها المحمول بتقنية “السيلفي” بدت مياه الحياة ونعيمها منتشرة في الوجوه الثلاثة، قبل أن تسقط الطائرة التي أقلعت من جاكرتا بعد أربع دقائق فحسب من إقلاعها؛ وقبل الدقائق حرصت الأسرة الصغيرة على إظهار فرحتها بالرحلة التي تقرب المسافات وتزيل مشقة وأنواء وشوق بعاد وفراق قد يكون امتد لفترة قليلة بعمر الزمان ولما هو أكثر بعمر النفوس والأرواح التي تتضاعف لديها المُدد والأزمنة الحزينة لما شاء الله تعالى.
مما يُروى عن الصحابي الجليل أبي الدرداء رضي الله عنه قوله: “أضحكني: مؤمل دنيا والموت يطلبه، وغافل وليس مغفولاً عنه..”؛ لم يكن ثلاثتهم في الصورة التي التقطت قبل وفاتهم بدقائق معدودة يعلم أو يحسب أو يظن أو يخطر له على بال أن الطائرة سوف تنفجر بعد فترة بسيطة، وأنها لن تصل إلى وجهتهم التي أسعدتهم وجعلتهم يتألقون ويحسبون أن عمرًا طويلًا سعيدًا مديدًا سوف يتألق بهم؛ ورغم تباين واختلاف أعمارهم، فإن لحظة الوفاة لم تفرق بين الأم التي قضت عمرًا على قيد الحياة وعرفت أحزانًا وأفراحًا كثيرة والابنين بالغي الصغر اللذين لم يخبرا حلوها ومرها.
حال الأم وطفليها هو حالنا جميعًا مع الحياة الدنيا؛ فكلنا -إلا مّنْ رحم ربي- هذا “المسلم” المطمئن إلى زينة الحياة الدنيا، ففي الحديث الشريف: عَنْ أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلّي اللهُ عليه وسلَّم، قال: “إنَّ الدُّنيا حُلوةٌ خَضِرةٌ، وإنَّ اللهَ مُسْتخلِفَكم فيها فَيَنْظر كيف تَعمَلون..” (رواه البخاري)، ولذلك يطوف طائف الموت بأحبابنا وأصدقائنا ومنهم شباب من عمر صغارنا فلا ننتبه إلى أن الدور قادم إلينا ومكتوب علينا منذ عرفنا الحياة وأفراحها وحلوها وخضرتها؛ وإن انتبهنا للخطب فلأيام وسرعان ما ننسى ونعاود حياتنا الطبيعية وارتكاننا إلى زهرة وزينة حياة ما دامتْ لغيرنا وللذين هم أفضل منا بمراحل؛ فما عاش في الدنيا وعرف الخلود الذي نتمناه في قرارة أنفسنا لا الأنبياء ولا المرسلون منهم وعلى رأسهم المصطفى صلى الله عليه وسلم أحب خلق الله إلى الخالق تعالى، فخاطبه سبحانه في قرآنه الكريم وخاطب أتباعه وغيرهم إلى قيام الساعة قائلًا: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (الزمر: 30).
على أن أحد المُكثرين في حق أنفسهم بارتكاب المعاصي والذنوب في حق الخلق -مما لا يُرجى معه عفو أو مغفرة من رب العباد قبل أن يأخذ الآخرون من البشر حقوقهم- إن سُئِلَ عن عدم خوفه من الموت أجاب بتلقائية: “نعم سأموت لكن ليس الآن”؛ وطول الأمل في استمرار الحياة الدنيا أحد أبرز وأهم خدع الحياة، وصدق الله تعالى إذ يقول: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجمعة: 8)، فلكأننا نهرب من الموت فنفر منه على أنه خلفنا دون أن ندري من أي اتجاه سوف يصل إلينا فنحن سنلاقيه على كل الأحوال.
ورحم الله الشيخ محمد متولي الشعراوي إذ يقول عن الموت: “إنه سهم أطلق بميلادك عليك وحياتك مقدار ارتحاله حتى يصيبك”؛ فكلنا أموات أبناء أموات نعيش حياة تنقص منذ الميلاد إلى لحظة خروج آخر أنفاسنا فلا تملك في الأرض أن تعيد أو تزيد نفسًا آخر، ولو كان الذين يريدون ذلك أحب البشر إلينا وأرأفهم وأقربهم إلينا، بل إن أحد الذين نحسبه من الصالحين كان كثيرًا ما يردد رحمه الله: إذا رأيتَ امرأة شديدة الحزن على زوجها -على سبيل المثال- وتؤكد أنها لن تنساه ما عاشت أو مرت بها أحداث إذا ما قال لها أحد “المشاكسين”: “إذا ما كنت بالغة الحزن عليه إلى هذه الدرجة فلا عليك لدينا حل يجمعك به فورًا.. ندفنك معه؛ حينها تصرخ مؤكدة رفضها ففيما كثرة المبالغة في الحزن إذن؟!”.
يعيش إنسان جامعًا المال من حلال وغيره غير مدرك أنه مسؤول عنه، وأن الموت قريب جدًا إليه، حتى إن ركب فاره السيارات أو السفن أو الطائرات ففي جميع الأحوال يأتي الموت بغتة؛ وقد أفلح الذي أحسن الإعداد له.
نسأل الله أن يرزقنا حسن الخاتمة، وأن يغفر لنا ويرحم تقصيرنا في حقه تعالى، وأن يعيننا على عدم التقصير في حقوق البشر من أمثالنا.