جوانب العظمة في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم متعددة، فهو النبي الذي يوحى إليه وهو القاضي العادل والقائد الشجاع والحاكم الحكيم والأب الرؤوف والزوج الحاني وخير الجيران لجاره وأفضل الأصحاب لصاحبه، وبجملة واحدة هو الإنسان الذي كملت إنسانيته قبل النبوة وبعد النبوة، كساها الله تعالى من حلل الجمال وصفات الجلال ما جعله إمام الأنبياء وخاتم المرسلين.
نتحدث عن الصفات التي نبعت من فطرته صلى الله عليه وسلم، فنراه يقدر المعروف الذي يقدم له ويكافئ عليه وإن بعُد الزمان؛ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيماً فكفله جده ثم توفاه الله فكفله عمه وكان يحسن إليه في شأنه كله؛ يتزاحم أبناء أبي طالب على الطعام فالطعام قليل والعيال كثير ورسول الله صلى الله عليه وسلم عفيف حيي يستحيي أن يمد يده للطعام فيؤثره عمه بطعام لا يشاركه فيه بقية الصبية.
مكافأته للمعروف
وجاء الوقت الذي يرد فيه النبي صلى الله عليه وسلم المعروف بعد أن وسع الله له في الرزق، فقد دعا عمه العباس ليكفل ولداً من عيال أبي طالب، ويكفل صلى الله عليه وسلم ولداً آخر فأبو طالب قليل المال كثير العيال، ويستجيب العباس فيأخذ جعفر، ويأخذ النبي صلى الله عليه وسلم علياً، لقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يكافئ عمه على إحسانه إليه في صغره، فكما كفله عمه في صغره كفل واحداً من أبنائه وتسبب في كفالة الثاني.
وهو الإنسان العزيز الذي يأبى أن يعيش عالة على الآخرين، بل يعمل بكل طاقته، فقد رعى صلى الله عليه وسلم الغنم لأهل مكة على قراريط وهي أجزاء الدراهم، والرعي من الأعمال الشاقة التي تتطلب مجهوداً كبيراً لا يتناسب مع صبي في عمر الزهور، لكنه صلى الله عليه وسلم يعمل بأجر زهيد خير من أن يبقى بلا عمل يساعد عمه في تكاليف المعيشة وإن كان مقابل العمل ضئيلاً لكنه المتيسر وخير من لا شيء، ثم يشُب صلى الله عليه وسلم فيتعلم التجارة ويصير من أمهر التجار، حتى تصل سمعته الطيبة لسيدة قريش خديجة رضي الله عنها، فتطلبه ليتاجر لها في أموالها، ثم تثني على مقدرته في كسب الأموال، وهي تعدد فضائله صلى الله عليه وسلم بعد أن تزوجته فتقول له: “وتكسب المعدوم”، أي تكسب المال المعدوم الذي لا يستطيع غيرك أن يكسبه، وفي قريش مائة تاجر وتاجر، ولكن قدراته صلى الله عليه وسلم تفوقهم جميعاً مع الصدق والأمانة، إنها شخصية الإنسان العفيف الذي يريد أن يخفف العبء عمن حوله فيتعلم ويتقن عمله.
إحسانه للآخرين
وهو الإنسان الذي لم تلهه البأساء والضراء عن الإحسان إلى الآخرين بالنفس والمال وحسن الاستقبال، عَنْ جَرِيرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ مَاحَجَبَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي (صحيح البخاري)، كم من شدة مرت عليه صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يتبسم في وجه جرير رضي الله عنه ولا يكون ذلك إلا من إنسان صاحب قلب كبير يتعالى على جراحه وآلامه ومشكلاته.
وهو الإنسان الذي لا ينسيه الكبير الصغير ولا القوي الضعيف ولا الغني الفقير، فلكل منهم في قلبه مكان، ولكل منهم في فكره نصيب، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُوعُمَيْرٍ، قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمٌ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: “يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ” (طائر أحمر المنقار) نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِي بَيْتِنَا فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا (صحيح البخاري)، وإنك لتنظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يحلق في سماء الحكمة ثم لا يمنعه ذلك من مخاطبة طفل صغير وسؤاله عن لعبته التي يلعب بها سؤال المهتم بشأنه المتتبع لأحواله.
عقل كبير
وهو صاحب العقل الكبير، وقد رأى جده ملامح الحكمة تبدو عليه في صغره، فبدأ يعوّده على أخلاق الرجال؛ كان لعبدالمطلب فراش في ظل الكعبة لا يجرؤ أحد من بنيه أن يجلس عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو طفل صغير يجلس عليه، فيسارع أعمامه إلى رده فيقول عبدالمطلب: دعوا ابني -يقصد النبي صلى الله عليه وسلم- فو الله إن له لشأناً.
وكان صلى الله عليه وسلم يحضر دار الندوة -وهي برلمان قريش ومكان أهل الحكمة والتجربة- يقبل ما يقال فيها من حق ويجتنب ما يدور فيها من باطل.
نراه ينفر من التقاليد ومن عادات الجاهلية فيستحلفه الراهب باللات والعزى، فيقول: ما كرهت شيئاً كما كرهتهما، ولما أعادوا بناء الكعبة واختلفوا من يحوز شرف وضع الحجر الأسود في موضعه احتدم الجدل، وكادت السيوف أن تخرج من أغمادها، حتى حكّموا أول داخل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الجميع بحكمه؛ لأنه سيكون حكم العقل والحق، ومن ذا الذي كان سيرضيهم جميعاً فيشركهم في فضل حمل الحجر من غير خصومة ولا تفضيل لبعضهم على بعض، يحمله ابتداء وحده فلا ينكر عليه أحد، ويضعه على الثوب ثم يأمرهم ليحملوا الثوب وعليه الحجر فيشتركون جميعاً في حمله، ثم يحمله من على الثوب فلا ينازعه منهم أحد، قال وهب بن منبه: “قرأت في واحد وسبعين كتاباً أن الله لم يعط جميع الناس من بدأ الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله صلى الله عليه وسلم إلا كحبة رمل من بين رمال الدنيا” (خاتم النبيين للإمام محمد أبو زهرة بتصرف).
شخصية رقيقة
وهو الشخصية الرقيقة التي لا ينسيها مرور الأيام ولا كثرة النعم الذكريات الطيبة، وقع أبو العاص بن الربيع، زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسيراً بين يدي المسلمين، وذلك قبل أن يسلم، فقدم أهالي الأسرى فداء لكي يناولوا حريتهم، وقدمت زينب رضي الله عنها قلادة كانت خديجة رضي الله عنها قد أهدتها لها يوم عرسها، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم تأثر بها تأثراً شديداً، وقال: “إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها”، فقالوا: نفعل يا رسول الله، ولنا أن نتخيل أن هذه القلادة قد ذكّرته بخديجة رضي الله عنها وبسابق أيامها وكيف ناصرته بنفسها ومالها، وكذلك يفعل كل صاحب عاطفة إنسانية حية، لقد تزوج بعدها بنساء أخريات، لكن ذكرى حبها وإخلاصها ومعونتها له في الأيام الصعبة لا يمحوها مرور الأيام، ولا زواجه بغيرها من النساء.
ولم تكن عاطفته صلى الله عليه وسلم تجاه الإنسان فحسب، بل تجاه العجماوات أيضاً يقدر ما تشعر به من هَمّ وحزن ويدفعه عنها ما استطاع، أخرج البيهقي وأبو نعيم وأبو الشيخ في كتاب العظمة عن ابن مسعود، قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فمررنا بشجرة فيها فرخا حُمّرة فأخذناهما فمرت الحُمّرة (طائر صغير كالعصفور) إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي تعرش (ترفرف بجناحيها)، فقال: “من فجع هذه بفرخيها؟”، قلنا: نحن، قال: “ردوهما موضعهما فرددناهما” (الخصائص الكبرى)، وكأني به صلى الله عليه وسلم يشعر بلوعة فراق الطائر لفراخه، أي قلب كبير كان يحمله النبي صلى الله عليه وسلم حتى يشعر بآلام طائر لا يعتني به أحد.
قمة في التواضع
وهو صلى الله عليه وسلم مع جلال النبوة وتقدير أصحابه له لم يطغ ولم يتكبر، بل كان صلى الله عليه وسلم في قمة التواضع، أتاه رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: “هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ” (اللحم الذي يقطع ويوضع في الشمس حتى يجف ويخزن لوقت الحاجة)، الرجل ينظر إليه فيرتجف من شدة الخوف، فيسكّن النبي صلى الله عليه وسلم خوفه بهذه الكلمات، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد، وهو ابن أعز العرب وسيدها، ولكنه صلى الله عليه وسلم يتواضع لله فيرفعه الله مقاماً علياً، كانت عظمته صلى الله عليه وسلم من تحقيقه للعبودية ولم تكن كسوة خارجية تبلى مع الزمان، بل بقيت وتبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.