إن أولئك الذين يرون أن المدرسة الاقتصادية بدأت بآدم سميث، أو بكارل ماركس، قوم قليلو الإلمام بتاريخ التفكير الاجتماعي والاقتصادي.
ذلك أن العلماء والمفكرين منذ عصور سحيقة في القدم زمناً ومكاناً، قد أدركوا الدور المهم الذي تمارسه العوامل الاقتصادية في السلوك الإنساني والتنظيم الاجتماعي والعمليات الاجتماعية للمجتمع.
فتعاليم الفقهاء والفلاسفة وعلماء الاجتماع وحكماء الشرق والغرب تؤكد أهمية الشؤون الاقتصادية ضمناً أو صراحة.
فقد بينوا –مثلاً– أن الفقر يؤدي إلى عدم رضا الناس واضطرابهم، ثم إلى الفوضى الاجتماعية.
لذا، كانت الحالة الاقتصادية التي تحقق كفاية الناس أمراً ضرورياً للنظام الاجتماعي والانسجام الاجتماعي.
إضافة إلى أن أولئك المفكرين قد أشاروا إلى أن العوامل الاقتصادية تؤثر في الظواهر المجتمعية.
وهذا يفسر سبب اعتبار تأمين الغذاء والضرورات الاقتصادية أول وظيفة من وظائف الحكومة الجيدة.
إن أهم ما يسترعي الانتباه في الكتب التراثية هو ما تعلقه من الأهمية على تنظيم العلاقات الاقتصادية والتنظيم الاقتصادي والمشكلات الاقتصادية.
وهذا يبرهن على أن المفكرين قديماً قد أدركوا أهمية الأحوال الاقتصادية في السلوك الإنساني والحياة الاجتماعية.
لذا، نجد في كثير من الكتب التراثية بيانات مبعثرة ومعلومات متناثرة وأرقاماً هنا وهناك تبيّن آثار الأحوال الاقتصادية في الحياة الاجتماعية.
إذ كانت الحياة الاجتماعية، سلمها وحربها، رفاهيتها وفقرها، خصبها وجدبها، الحروب والثورات، الحب والزواج، الانتحار والجريمة، التشرد والهجرة، التقدم والتخلف، الإنتاج والاستهلاك، الشبع والجوع.
فقد أثبتت الدراسات الإحصائية ومقاييس الجسم الإنساني والدراسات التجريبية بأن هناك سلسلة من الترابط والعلاقات متفاوتة الدرجات بين الوضع الاقتصادي من درجة الفقر أو الغنى والخصائص الجسمية والبيولوجية والعقلية للسكان من عمر واحد وجنس واحد في المجتمع الواحد.
جاء في بعض الدراسات أن الطبقات الفقيرة في مجتمع معين إذا ما قورنت بالطبقات ذات السعة والرخاء في المجتمع نفسه فإن المقارنة سوف تسفر عن:
أ- أن أفراد الطبقات الفقيرة أقصر قواماً.
ب- أن أفراد الطبقات الفقيرة أقل وزناً.
جـ- أن أفراد الطبقات الفقيرة أكثر عللاً بدنية.
د- أن أفراد الطبقات الفقيرة أقل عمراً.
هـ- أن أفراد الطبقات الفقيرة المخ عندها أقل وزناً، ومن ثم أقل ذكاءً نوعاً ما.
بيد أن هذا الترابط ليس ترابطاً كاملاً، بل فيه كثير من المبالغة.
وقد أثبتت بعض الدراسات والإحصائيات ذات العلاقة بالفروق في العمليات الحيوية بين الطبقات الفقيرة والطبقات الغنية أن الطبقات الفقيرة في المجتمعات الغربية المعاصرة تكون نسبة الوفيات فيها والولاة أكبر مما هي في الطبقات الغنية من المجتمع نفسه والجنس والعمر.
يقول ألكسندر سوروكن في كتابه “المدرستان الاقتصادية والميكانيكية في علم الاجتماع”: إن الأحوال الاقتصادية لا يمكن إغفالها في تفسير العمليات الحيوية، بيد أنه لا ينبغي الاعتماد عليها وحدها أو المغالاة في دور الأحوال الاقتصادية.
ومن جهة أخرى، يؤكد بعض الاقتصاديين أن هناك ترابطاً وثيقاً بين العامل الاقتصادي والظواهر الاجتماعية الأخرى، ومن ضمنها: العلم، والفلسفة، والأدب، والفنون.. وكان من نتيجة ذلك أن ظهرت سلسلة من البحوث غرضها إيجاد علاقات أكثر دقة بين العوامل الاقتصادية والظواهر الاجتماعية الأخرى.
إن هناك عدة نظريات تحاول ربط ازدهار أمة من الأمم أو تقهقرها وانحطاطها بالعوامل الاقتصادية أو بآثارها البارزة.. وفي بعض هذه النظريات جزء من الصحة، ولكنه جزء وحسب.
وقد حاول باحثون مختلفون تكريس الجهود لإيجاد ترابط معين بين العوامل الاقتصادية ونوعية وتغيّر الآراء والمعتقدات وظواهر الفنون والأدب، بَيْدَ أن معظم هذه البحوث المطوّلة لم توفق إلى حد كبير من الناحية العلمية.
وحتى إذا كان هناك ترابط بين تلك الظواهر والأحوال الاقتصادية فهو ترابط غالباً ما يكون غير محسوس أو ترابطاً ضعيفاً.
_______________________________
مستشار اقتصادي وأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
للتواصل: zrommany3@gmail.com.