يسير المرء في طرقات الحياة بين خوف من السقوط في مأزق ورغبة في المخاطرة، بين يأس من الخروج من مأزق طالت أيامه ولياليه حتى ردد مع القائل:
أَلا أَيُّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلِ بِصُبْحٍ، وما الإصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ
وبين حسن ظن بالله تعالى يبعث في النفس حياة بعد أن أوشكت على الموت، وفي البدن عافية بعد أن كاد المرض أن يتلفه، وفي النفس إشراق بعد أن كادت ظلمة اليأس أن تغمره.
إن المصائب والمصاعب التي يلقاها الإنسان كثيرة، ولو وقف عند كل مشكلة تقابله دون أن يفكر في حلها لتعطلت مسيرة حياته، ولو خطا فيها خطوات فإنها تكون خطوات ثقيلة محملة بثقل الخوف من المستقبل، محجوبة بحجاب الرعب من كل جديد، أي عجز يمكن أن يصيب الإنسان أكثر من ذلك؟!
في رحلتنا عبر الزمن، نرى كثيراً من الناس واجهوا صعوبات جمة، فهذه أرملة صغيرة جميلة ترك لها زوجها أبناء وبنات ولم يُبق بعده تركة ولا مصدراً للدخل تنفق منها على نفسها وعلى أولادها، يحملها الأمل على العمل ليلاً ونهاراً وتجاوز الصعوبات التي تقابل كل أرملة حسناء من طمع من لا أخلاق لهم، واعتبارها صيداً سهلاً، ومن متطلبات لأبنائها، فهم يريدون أن يعيشوا كما يعيش زملاؤهم، بين هموم اليتم والترمل تعيش هذه الأسرة، ترى لو لم يكن لها صبر وإيمان بما عند الله تعالى، لو لم تملك من التوفيق ما يحملها على العمل الشاق، لو لم تر الغد يتزين بزينة النجاح والسعادة، هل من الممكن أن تخطو خطوة واحدة في طريق الحياة؟
ترى لو أصيبت أسرة مثل هذه بمصيبة اليأس، كيف ستتحول حياتها؟ هل تفكر الأم في الانتحار؛ لأن الله تعالى أرحم بها من خلقه الذين لم يراعوا لليتم حرمة، ولا للترمل حقاً، ولم يمسحوا دمعة محروم يوماً؟ ما ترى لو تمهل كل يائس فكر في الانتحار أن رحمة الله تعالى واسعة لا تضيق به ولا بمثله، وأن ما أصابه قد أصاب غيره بل لا تعد مصيبته جنب المصائب شيئاً يذكر؟
ترى لو أن عائلاً لأسرة فقد مصدر رزقه وطرق الأبواب تلو الأبواب لكنه لم يجد من يفتح له، فظروف العالم كما نعلم جميعاً والجائحة قد أغلقت الكثير من مصادر الرزق وأماكن العمل، لكن تفكيراً بسيطاً أن الجائحة وكل الجوائح التي أصابت البشرية لم تغلق باب الله تعالى، ولم تقطع أرزاق الخلق، وإن حولتها من مصدر إلى آخر، هذه الرؤية الواقعية التي تنبع من إيمان الإنسان بأن رزقه على الله، وكان الأقدمون يقولون: “من كان رزقه على الله فلا يحزن”، ولو أن هذا وأمثاله بدلاً من البكاء على اللبن المسكوب استعان بالله عز وجل وطوَّر من نفسه بما يناسب مرحلة الوباء وحقق الحكمة التي تقول: “من استوى يوماه فهو مغبون”، فلا بد أن يكتسب المرء كل يوم جديداً من الأفكار والمعلومات والقيم والحكم والمهارات والأخلاق الحسنة حتى لا يفاجأ بأنه في يوم ما خارج سوق العمل.
ترى لو أن طالباً كان يسعى للحصول على معدل دراسي مرتفع يمكّنه من الالتحاق بالكلية التي يحبها، لكنه لسبب أو لآخر لم يستطع؛ اسودت الدنيا أمام عينيه، وغاب عنه أن رغبات الإنسان تتقلب؛ فساعة يحب شيئاً يعتقد أن وجوده استمرار للحياة، وغيابه فقدان للحياة أو لمعناها، ترى هل درس إمكاناته ورأى أنها تتوافق مع ما يرغب؟ هل للنجاح باب واحد؟ لماذا يضيق على نفسه وقد وسع الله عليه؟ كم من أناس حصلوا على المعدل الذي يريدون والتحقوا بالكلية التي يحبون، ثم غيَّروا مسار حياتهم بسبب سوق العمل، أو تبين لهم أن المجال الجديد خير لهم من القديم وأقرب إلى نفوسهم، ترى لو أن هذا الطالب وقف به اليأس عند عتبة الدراسة التي لا يريد، كيف ستكون حياته؟ لعلي أذكره بقولهم: إذا لم تعمل ما تحب فأحب ما تعمل، أعط لنفسك المجال لكي تتطلع إلى ما نلته من فرصة لعل فيها الخير الكثير، أذكرك بقول الله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
ترى لو أن حباً وقع بين فتى وفتاة، لكن قدَّر الله تعالى لكل منهما حياة مع شخص آخر، لو أنهما أو أحدهما أصيب باليأس لتنغصت عليه حياته قبل أن يبدأها، أو ما درى كل منهما أن القلب سمي قلباً لتقلبه؛ فتارة يتجه هذه الناحية وتارة يتجه ناحية أخرى، كم من علاقات الحب نشأت بين اثنين وتكللت بالزواج ثم لما انكشفت طبائع كل منهما أمام الآخر وعاشا معاً بعيداً عن الأوهام اكتشفا أن واقع كل منهما يختلف عن الصورة التي رسمها الشريك الآخر في خياله، وأن الحياة التي رسما ملامحها معاً لن يستطيعا أن يكملا طريقهما.
مشاعر اليأس بسبب فقدان الحبيب أو مصدر الرزق أو عدم التوفيق في الحصول على ما يريد الإنسان، هذه المشاعر أو الغيوم التي تغطي على البصر والبصيرة وتترك آثارها على الجسد والعقل والقلب كيف نبددها؟ إنها من حولنا، وأحياناً تكون داخلنا تكاد تهلكنا وتنقلنا بين الأموات، وإن لم تخرج لنا شهادة وفاة بعد فما قيمة حياة لا يرى فيها بصيص أمل ولا طاقة نور ولا من يشعر بما تعاني منه؟
لنسأل أنفسنا: هل عانينا من اليأس بما فيه الكفاية ونريد أن نخرج من النفق المظلم ومن عنق الزجاجة أو قعر جحيم اليأس؟ هل نمتلك هذه الرغبة، أم أن اليأس أفقدنا التفكير في طوق النجاة؟ لو جاء العالم كله لينتشل إنساناً من قاع بحار اليأس لكن هذا الإنسان لا يرغب لما استطاع أن يساعده أحد، بل لو ساعدته لألقى بنفسه مرة أخرى في قاع بئر أو في أعماق بحر أو ما تيسر له من أسباب الهلاك.
ليسأل نفسه أولاً: هل من الممكن أن تمر هذه الأزمة بثقلها وظلالها الكئيبة؟ لو تبصر لرأى أن أزمات كثيرة كبيرة مرت على الناس وعلى الدول وبقيت التجربة التي ينتفع بها من يفكر ويعتبر، هل يمكن أن يستمد طاقة ممن حوله الذي يمدون له يد العون يشاركونه آلامه؟ على الأقل لا يبخلون عليه بكلمة تطيب خاطره أو دعوة في جوف الليل أو رسالة تذكره أن هناك من يحبه ويتمنى له السعادة، لو بدأ بمن حوله أو أقرب الناس له أسرته في محاولة استخراجه مما هو فيه قبل أن تتفاقم أزمته، أو حتى لو وصل إلى حالة لا تسر، لا ينبغي الكف عن تقديم الدعم النفسي، إحدى الأمهات كانت توصي صغارها إذا دخل زوجها البيت أن يستقبلوه بالود والحب، كانت تقول لهم: العالم خارج البيت قاس فليّنوا هذه القسوة بكلمة طيبة أو بابتسامة رقيقة أو بخبر مفرح ولو كان صغيرا، كتقدير المدرسين للأبناء الصغار أو حصولهم على الدرجة النهائية في اختبار في المدرسة، أو بمعلومة طريفة تعلموها في المدرسة، وهكذا ينشأ الأبناء على أن لهم دوراً في تخفيف الآلام، وأن بإمكانهم أن يفعلوا شيئاً كبيراً لكي تتحسن حياة من حولهم، أما أن يشعر البائس اليائس بأنه وحيد لا يجد من يشعر به يعاني في صمت أو بصراخ لكن ليس هناك من يسمعه، وإذا سمعوه لا يجد من يستجيب لصراخه، كيف تكون مشاعره؟ ما قيمة حياة كهذه؟ بل ما قيمة أسرة لا يشعر أفرادها بمآسي بعضهم بعضاً؟
فإذا عجزت بعض الأسر عن القيام بدورها لأنها لم تدركه، فالمجتمع حارس على أبنائه، أو هكذا ينبغي أن يكون، ينتبه لهؤلاء الذين أوشكوا على الإضرار بأنفسهم وبمن حولهم ينتشلهم حين يدرك خطر اليأس على الفرد والمجتمع فيشاركهم الهم، ويساعد المخلصون من أبنائه بما استطاعوا؛ هذا يقدم فكرة تساعد على التخلص من المشكلة، وهذا يقدم مساهمة مالية، وهذا يقدم دعماً معنوياً، وهذا يصطحبه حتى لا تقتله الوحدة.. بمجموع هذه الجهود نستطيع أن ننقذ إنساناً قبل أن يهلكه اليأس ويهلك من حوله.