أمامي 3 دراسات تحاول أن تلتقط الموضوعات والقضايا التي تستحق المتابعة في عام 2022؛ الأولى لمركز الأطلسي، وهو أمريكي، والثانية لمركز أوروبي، والثالثة للمجلس الوطني الأميركي للاستخبارات.
في كل دراسة من هذه الدراسات الثلاث هناك إشارة إلى العديد من القضايا التي يمكن أن تأخذ العالم في اتجاه أو آخر، إلا أنه يمكن تجريدها في عدد من المحاور التي ترسم ملامح الحاضر والمستقبل، وتستحق المتابعة في عامنا الجديد، وأهمها:
1- تغير هيكل النظام الدولي من الأحادية إلى التعددية، وفيه: التنافس الأميركي الصيني، ووضع روسيا خاصة من خلال أزمة أوكرانيا، والاتحاد الأوروبي الساعي إلى الاستقلال الإستراتيجي، وتوازن القوى الوسطي في عالم متعدد أو ثنائي القطب.
2- عدد من القضايا التي سيتركز عليها مقالي هذا لأنها تتسم بأنها “عودة للمستقبل”، بمعنى تجدد النقاش فيها بشكل دائم، وأهمها: إعادة التفكير في العولمة، وتطورات التكنولوجيا، خاصة فيما يخص غزارة المعلومات وتأثيرها، وأخيرا تحركات المواطنين وتطلعاتهم المختلفة، وفي القلب منها مسألتا اللامساواة في الفرص والدخل والثروة مما أظهره الوباء، والديمقراطية التي باتت مهددة في كل مكان.
تظل قضايا الأوبئة التي باتت قدر البشرية أن تتعايش معها، بالإضافة إلى تغير المناخ وتحولات الطاقة والأمن الغذائي من الموضوعات التي سيتصاعد النقاش حولها في عامنا هذا وفي المستقبل، ومن المرجح أن يكون التحدي الاقتصادي الأصعب في هذا العام هو كبح التضخم الذي ينتشر بسرعة من بلد إلى آخر في اقتصاد عالمي لا يزال مترابطًا بشدة.
ملاحظة أخيرة قبل أن ندلف لمناقشة بعض قضايا “العودة للمستقبل”، وهي أنه بغض النظر عن مجادلة غسان سلامة -الوزير اللبناني السابق ومبعوث الأمم المتحدة في ليبيا سابقا- حول أن “هذا الجزء من العالم -ويقصد به الشرق الأوسط- لم يكن هامشيًّا في السياسة العالمية أبدًا”؛ فإن المنطقة ومجالها الحيوي الجيوإستراتيجي حضرت في هذه التقارير جميعا من منظور الأزمة وليس الفاعلية أو الدور، في حين اقتصرت أزمات 2022 -في أحد التقارير- على ليبيا والصحراء الغربية وأفغانستان، وأضيفت إليها إثيوبيا، وفي دراسة أخرى نُظر إلى المنطقة من منظور الانتقال من الهشاشة إلى الدولة الفاشلة حين تلاحظ مزيدا من الدول تنزلق جيئة وذهابا من الحالة الهشة الراهنة إلى الفشل.
فليبيا واليمن وسورية والصومال دول فاشلة الآن، كما تقترب بلدان أخرى من فشل الدولة، إن لم تكن تعاني بالفعل مثل جنوب السودان، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وتشاد (وهي دول تدخل ضمن مجالنا الحيوي)، والسودان، وأفغانستان. ومما يثير القلق أن دولًا كبيرة مثل إثيوبيا ونيجيريا ليست بعيدة جدًا عن الركب، وانهيارها سيؤدي إلى اضطرابات إقليمية كبيرة. وإذا أضيف إلى ذلك فشل الوصول إلى اتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي تكون المنطقة عرضة لأزمات عدم استقرار متعددة.
أولاً: إعادة صياغة العولمة
رغم أن الوباء أصاب العولمة باضطرابات شديدة خلال العامين الماضيين حين تصاعدت القومية الشعبوية، وأصيب الشحن التجاري وسلاسل التوريد واقتصادات السفر في مقتل، كما فشل التعاون الدولي في مواجهة الوباء وتوزيع اللقاحات وارتكزت المواجهة على الدولة القومية؛ فإن العولمة تتخذ شكلا مختلفا لأسباب لا علاقة لها بالوباء، على حد قول مارك ليفنسون في مقاله عن العولمة في التقرير الأوروبي المشار إليه سابقا.
ويلاحظ أن الاتجاهات التي دفعت العولمة على مدار العقود الثلاثة الماضية آخذة في التلاشي. وترسم 3 عوامل ملامح العولمة في المستقبل: التكنولوجيا، وخصائص السكان، وتحول المبادلات العالمية من السلع إلى الخدمات والأفكار والمعلومات.
1- سوف تقيد التكنولوجيا تجارة السلع؛ فخلال العام الماضي أعلنت كل شركة تصنيع سيارات رائدة عن استثمارات كبيرة في مجال السيارات الكهربائية، وهذه النوعية من السيارات أقل في مكوناتها بآلاف الأجزاء من السيارات العادية. يذهب أكثر من خُمس الاستثمار في العديد من البلدان الآن إلى الأبحاث والبرمجيات، ويعني غالبًا تحديث الآلات الصناعية وتنزيل البرامج بدل استبدال الأجهزة، كما أن الأتمتة تقضي على أحد الأسباب الرئيسية وراء استمرار وبناء سلاسل التوريد في العالم. بهذا المعنى تبدو العولمة في تضاؤل، خاصة أن الحكومات تقدم إعانات أو تقيم حواجز لحماية الأسواق للمصنعين المحليين.
2- في جميع أنحاء الأميركتين وأوروبا ومعظم آسيا ينمو السكان ببطء ويتقدمون في السن بسرعة، كما يتم تكوين عدد أقل من العائلات الجديدة. في حين أن المشترين الرئيسيين للسلع الاستهلاكية المعمرة هم من الشباب أو الأسر الجديدة.
3- أصبحت عولمة المنتجات التي لا تعبر الحدود فعليًا أكثر أهمية من أي وقت مضى، ويلاحظ تحويل العديد من المشاريع البحثية الفردية إلى مشاريع دولية حيث يمكن لناشر الكتاب البريطاني الاتصال بسهولة بمحرر نسخ في باكستان، ويمكن صنع فيلم في أي مكان، مع تحويل الحوار إلى لغات متعددة بواسطة الذكاء الاصطناعي.
على عكس تجارة السلع، التي يمكن إعادة تشكيلها من خلال التعريفات والحصص والإجراءات المماثلة، سيكون من الصعب على الحكومات السيطرة على تجارة الأفكار لأن منع تدفق البيانات قد يعزل الدولة عن الأنشطة الاقتصادية عالية القيمة التي تريد بشدة أن يكون لها دور فيها. تبحث الشركات في جميع أنحاء العالم عن المواهب مما سيقود العولمة في اتجاه جديد، يعتمد بشكل مطرد على الخدمات والأفكار بدل السلع المادية. ستصبح هذه التغييرات في العولمة أكثر وضوحًا في عام 2022.
ثانياً: الاحتجاج.. الفجوة بين عالم السياسة وواقع السياسات
بينما تدعي النظرية السياسية أن الدول ذات سيادة وأن شعوبها هم أصحاب هذه السيادة، فإن الحقيقة الواضحة أن السياسات مؤطرة ومحدودة ومضغوطة بسبب القيود الدولية، خاصة من قوى السوق مثل الشركات متعددة الجنسيات القوية وتدفق المعلومات والأفكار من خارج الحدود. أدى عدم القدرة على معالجة القضايا الاقتصادية أو الاجتماعية التي أبرزها الجمهور إلى استقطاب متزايد وإحباط عميق، كما تم استغلالها من قبل السياسيين الجدد أمثال ترمب، في مقابل النموذج القديم الذي يعزز الإجماع والتوافق والخطاب المعتدل.
لقد تراجعت هذه الخطابات وحل محلها الخطاب المتطرف والكراهية وتفاقم المشاعر والعواطف والاستبعاد المتبادل.
أصبحت أدوات الوسط السياسي عديمة الفائدة أو عفّى عليها الزمن واستبدلت بشبكات التواصل الاجتماعي التي تزيد بخوارزمياتها المتحيزة الاستقطاب والتطرف والكراهية وخطاب المؤامرة. وإذا أضيف إلى ذلك عدم المساواة التي أظهرها الوباء نكون إزاء تصاعد للتوترات والصراعات السياسية؛ فكلما زاد قلق الناس بشأن عدم المساواة، زاد طلبهم على إعادة التوزيع. إلى جانب القلق على عدم المساواة يعتمد دعم الأشخاص لسياسات محددة أيضًا على ما إذا كان يُنظر إلى هذه السياسات على أنها فعالة في الحد من عدم المساواة أم لا.
ثالثاً: أزمة التجديد الديمقراطي
انتهى عام 2021 بقمة الديمقراطية التي عقدها الرئيس الأميركي جو بايدن في ديسمبر الماضي، ساعيا بها لمعالجة تراجع الديمقراطية في العالم، وأزمتها في وطنه الأم خاصة بعد هجوم الكابيتول في السادس من يناير 2021، ولبناء تحالف بين الديمقراطيات في مواجهة الدكتاتوريات.
حالة الديمقراطية في عامنا الجاري من أكثر الأشياء أهمية التي تستحق الرصد والمتابعة، لكن يمكن الإشارة إلى 4 نقاط سريعة:
1- أن الأنظمة الديمقراطية التي أقيمت داخل حدود الدولة القومية غير قادرة على ترويض أو السيطرة على الآثار الجانبية السلبية للاقتصاد العالمي إلا عند العمل معًا، وربما بالاقتران مع أنظمة غير ديمقراطية.
2- عودة “الترمبية” التي ستبرز معها بقوة أزمة الديمقراطية الأميركية، وستكون انتخابات الكونجرس هذا العام خير تجسيد لها، خاصة في ظل عجز بايدن عن إبعاد جزء من قاعدة ترمب الاجتماعية عنه؛ فمع انتشار المعلومات المضللة التي تنقلها وسائل التواصل الاجتماعي ونظريات المؤامرة يبدو أن الانقسام السياسي في الولايات المتحدة آخذ في الاتساع قبل انتخابات عام 2022، حيث يرى كل جانب الآخر ليس خصما ولكنه عدو، كما ينظر عدد مقلق من الأميركيين الآن إلى العنف على أنه مقبول، بما في ذلك ما يقرب من ثلث الجمهوريين. في عام 2022 يبدو أن الاستقطاب والتوترات الطائفية في أميركا مهيأة للزيادة.
3- يأمل بايدن تشكيل تحالف عالمي ديمقراطي مع شركاء الولايات المتحدة مستبعدا الصين وروسيا ودولا استبدادية أخرى؛ قد يكون هذا غير عملي، وقد يكون خطيرا لأنه يزيد الصراع الدولي.
4- سيجري هذا العام حدثان رياضيان دوليان رئيسيان: دورة الألعاب الأولمبية الشتوية ببكين في فبراير، وكأس العالم لكرة القدم في قطر في نوفمبر وديسمبر؛ وستكون هذه الأحداث فرصة ليس فقط لعشاق الرياضة، بل من أجل الاندماج المتزايد للمناقشات حول الجغرافيا السياسية للاستبداد والجغرافيا السياسية للرياضة؛ ففي عام 2022 نحن على يقين من تصاعد النقاشات واتساعها حول كيفية استخدام الأنظمة الاستبدادية للرياضة لممارسة شكل من أشكال “القوة الناعمة” أو الانخراط في “غسيل السمعة الرياضي” لإضفاء لمسة إيجابية على سجلات حقوق الإنسان، ويضاف إلى ذلك أن دورة الألعاب الأولمبية ببكين استُخدمت منذ العام الفائت لفتح سجل الصين في مجال حقوق الإنسان، واعتبرت إحدى أدوات التنافس الغربي معها.
رابعاً: شركات المعلومات العملاقة
تؤدي هذه الشركات دور “صانع القواعد والمنظم والشرطة” لمجال يتسع بشكل مستمر. لقد نمت هذه الشركات التي تبلغ قيمتها تريليون دولار جزئيًّا على حساب الاقتصاد الحقيقي؛ حيث تزدهر ويخسر الآخرون غالبًا. وارتبطت “الشركات الخارقة” في الأدبيات الاقتصادية بانخفاض حصة العمالة وجودتها، وازدهار قوة السوق، وركود الإنتاجية، وازدهار عدم المساواة بشكل عام.
كما أصبحت القوة الاقتصادية تدريجيًا قوة سياسية؛ فقد اكتسبت الخوارزميات التي تعدل المحتوى تأثيرًا هائلا على النقاش العام، وقد يقنعون البعض بشن الحرب، والبعض الآخر بمقاومة التطعيم وعدم الثقة في العلم والمؤسسات العامة.
لا يمكن للحكومات والسلطات العامة أن تضاهي سرعة شركات التكنولوجيا ومرونتها وخفة حركتها، بدلاً من ذلك يمكن أن يكون تمكين المجتمع المدني ومجتمع علوم البيانات من النظر في خوارزميات المنصات، فضلاً عن تمكين العمال من البحث في الخوارزميات التي يتم نشرها في مكان العمل؛ الحل لواحدة من أكثر المهام التنظيمية صعوبة في عامنا هذا وفي المستقبل.
أقول قولي هذا داعيا الله أن يكون عامنا هذا أخف وطأة على البشرية من العامين السابقين.. آمين.
______________________
(*) المصدر: “الجزيرة.نت”.