أفتى المجلس الأوروبي للإفتاء بصحة زواج المرأة البالغة العاقلة إذا زوجت نفسها ممن يرضى دينه وخلقه، موصياً النساء بعدم تجاوز أولياء أمورهن، لحرصهم على مصلحتهن، ورغبتهم في الأزواج الصالحين لهن وحمايتهن من تلاعب بعض الخطاب به، وموصياً الآباء في الوقت نفسه بتيسير زواج بناتهم، والتشاور معهن فيمن يرغب في الزواج منهن دون تعسف في استعمال الحق.
جاء ذلك رداً من المجلس على سؤال: “هل للمرأة الحق في أن تبرم عقد زواجها دون تدخل وليها؟”.
وقال المجلس في إجابته عن هذا السؤال التي نشرها على حسابه على “فيسبوك”:
يعتبر عقد الزواج من أهم العقود، لما يترتب عليه من قيام أسرة جديدة في المجتمع، وإنجاب أولاد وحقوق وواجبات تتعلق بكل من الزوجين.
ولما كان كل واحد من الزوجين طرفًا في العقد ناط الشارع إبرامه بهما، وجعله متوقفًا على إرادتهما ورضاهما فلم يجعل للأب ولا لغيره على المرأة ولاية إجبار ولا إكراه في تزويجها ممن لا تريد بل جعل لها الحق التام في قبول أو رفض من يتقدم لخطبتها، فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن جارية أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم(1).
وجاءت النصوص النبوية الأخرى تؤكد للمرأة ذلك الحق فقال عليه الصلاة والسلام: “لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الأيم حتى تستأمر”(2)، وقال: “والبكر يستأذنها أبوها”(3).
وبهذا جعل الإسلام عقد الزواج قائمًا على المودة والرحمة، والألفة والمحبة، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، ومن المحال -عادة- تحقيق تلك المقاصد الكريمة بزواج قائم على الإكراه والإجبار.
لكن لما كانت المرأة -رغم إرادتها المستقلة التي جعلها الإسلام لها- عرضة لأطماع الطامعين، واستغلال المستغلين فقد شرع من الأحكام ما يحفظ حقوقها، ويدفع استغلال المستغلين عنها، فجعل لموافقة وليها على عقد زواجها اعتبارًا هامًا يتناسب مع أهمية هذا العقد، لما يعكسه من أثر طيب يخيم على الأسرة الجديدة، ويبقي على وشائج القربى بين الفتاة وأوليائها، بخلاف ما لو تم بدون رضاهم، فانه يترتب عليه الشقاق والخلاف، فينجم عنه عكس المقصود منه.
ومع أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن رضا ولي المرأة هو الأولى والأفضل، غير أنهم اختلفوا في جعله شرطًا من شروط صحة العقد:
– فذهب جمهور الفقهاء إلى أن رضى ولي المرأة شرط من شروط صحة العقد لا يصح بدونه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل”(4)، وقوله أيضًا: “لا نكاح إلا بولي”(5).
– وذهب الحنفية إلى عدم اشتراط ذلك مستدلين بأدلة كثيرة، منها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الأيم أحق بنفسها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها”(6)، وحملوا أحاديث اشتراط الولي على من كانت دون البلوغ، وقالوا: لو زوجت البالغة العاقلة نفسها كان زواجها صحيحًا إن استوفى العقد شروطه الأخرى، ويجوز لوليها أن يلجأ إلى القاضي فيطلب فسخ العقد إذا كان هذا الزواج من غير كفء، وعلى القاضي إجابة طلبه إن تحقق من ذلك.
وإن المجلس يوصي النساء بعدم تجاوز أولياء أمورهن، لحرصهم على مصلحتهن، ورغبتهم في الأزواج الصالحين لهن وحمايتهن من تلاعب بعض الخطاب بهن.
كما يوصي الآباء بتيسير زواج بناتهم، والتشاور معهن فيمن يرغب في الزواج منهن دون تعسف في استعمال الحق وليتذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض”(7)، وليعلموا أن عضلهن من الظلم المنهي عنه، والظلم محرم في الإسلام.
كما يوصي المجلس المراكز الإسلامية مراعاة ما تقدم لأنه أسلم وأحكم، إلا إذا لم يوجد للمرأة ولي فيكون المخوَّل من قبل المركز الإسلامي وليها في البلاد التي ليس فيها مرجعيات شرعية قانونية.
ومع هذا يرى المجلس أن البالغة العاقلة لو زوجت نفسها ممن يرضى دينه وخلقه فزواجها صحيح.
_____________________________________
(1) أخرجه أحمد (رقم: 2469)؛ وأبو داود (رقم: 2096)؛ والنَّسائي في “السنن الكبرى” (رقم: 5387)؛ وابن ماجة (رقم: 1875)، من حديث عبدالله بن عبَّاس. وصحَّحه ابنُ القطَّان وابن حزم، وقوَّاه الخطيب البغدادي وابن القيم وابن حجر.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 4843، 6567، 6569)؛ ومسلم (رقم: 1419)، من حديث أبي هريرة.
والأيِّم: الثَّيب، وهي التي سبق لها الزواج.
(3) أخرجه مسلم (رقم: 1421)؛ والبيهقي في “السنن الكبرى” (7/115)، من حديث ابن عباس، وهذا النص أحد ألفاظ حديثه.
(4) أخرجه أحمد (رقم: 24205، 24372، 25326)؛ وأبو داود (رقم: 2083)؛ والترمذي (رقم: 1102)؛ وابن ماجة (رقم: 1879)، من حديث عائشة، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (رقم: 4074) والحاكم (2/168).
(5) أخرجه أحمد (19518، 19710، 19746)؛ وأبو داود (رقم: 2085)؛ والترمذي (رقم: 1101)؛ وابن ماجة (رقم: 1881)، من حديث أبي موسى الأشعري. وصححه علي بن المديني شيخ البخاري، وقواه البخاري والترمذي والحاكم والبيهقي وغيرهم.
(6) أخرجه مالك في “الموطأ” (رقم: 1493)؛ وأحمد (رقم: 1888 ومواضع أخرى)؛ ومسلم (رقم: 1421)؛ وأبو داود (2098)؛ والترمذي (رقم: 1108)؛ والنسائي (6/84-85)؛ وابن ماجة (رقم: 1870)، من حديث ابن عباس.
(7) أخرجه يحيى بن معين في “تاريخه” (3/40)؛ والبخاري في “الكنى” (ص: 26)؛ والترمذي (رقم: 1085)؛ وآخرون، من حديث أبي حاتمٍ المزني. وحسَّنه التِّرمذي.