أفتى عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي بعدم جواز الترحم أو الاستغفار للكفار والمشركين وعدم جواز إطلاق لفظ الشهيد على قتلاهم.
وبحسب الفتوى التي وصلت نسخة صوتية منها لـ”المجتمع”، فإن الشيخ الشنقيطي شدد على أن هذه الأمور محسومة شرعاً، وفيها نصوص صحيحة ومنعقد عليها الإجماع في عدم الترحم على الكفار.
وقال الشنقيطي، وهو رئيس مركز تكوين العلماء بموريتانيا: “وأما الاستغفار للكفار والترحم عليهم، وقد ماتوا على الكفر، فذلك من المعلوم من الدين بالضرورة، كذلك أنه حرام، لا يفعله المسلمون، وأن الله قال: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة).
وحذر الشنقيطي من إطلاق لفظ الشهيد على الكفار، مؤكداً أن “لفظ الشهيد فهو وسام شرعي عال، ولقب من ألقاب التشريف، لا يطلق إلا على من يستحقه، وأن الكفار لا علاقة لهم بهذه الألقاب المشرفة شرعاً، لأنها منازل من منازل الجنة، فلا يمكن وصف كافر بأنه نبي أو صديق أو شهيد”، وفق ما جاء في فتواه.
واستنكر عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ما وصفه بـ”تمييع الأوصاف الشرعية”، و”المصطلحات الشرعية”، قائلاً: “فلا يمكن أن تميع هذه الأوصاف بوصف شهيد الكرة أو شهيد بمعنى شهد المعركة، أو شهيد قتله العدو، فلا يجوز أن نقول الصحابي الجليل لأنه صحب الرئيس الفلاني أو الزعيم الفلاني، لأن الصحابي الجليل، هو من صحب الرسول صلى الله عليه وسلم ومات على دينه”.
لكن الشنقيطي، حرص على نصح الجميع بالإحسان لمن توفي على كفر وشرك وكان محسناً أو مناصراً لقضية الأمة الإسلامية بالإنصاف، ويذكر محاسنه، ضارباً المثل بالعديد من النماذج التي ورد فيها ثناء وهم على الكفر، مثل المطعم بن عدي.
الفتوى استندت إلى نصوص شرعية تجرم طلب الرحمة
وقال الشنقيطي، في فتواه: “والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر يوم بدر أنه لو كان المطعم بن عدي حياً فكلمه في هؤلاء الأسرى، لأطلقهم له، وهذا يدل على الاعتراف بالجميل لمن أحسن إليك، حتى لو كان مشركاً أو كافراً، فتعترف له بالجميل الذي فعل، وتثني عليه بما فيه من الصفات الحميدة، كثناء عمرو بن العاص رضي الله عنه على الروم بالصفات الخمس، التي في صحيح مسلم، بعد أن ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “تَقُومُ السَّاعَةُ والرُّومُ أكْثَرُ النَّاسِ“.
وفند الشنقيطي، في فتوى مطولة، الشبهات التي وردت حول الاستغفار والترحم على غير المسلمين حين الوفاة، مؤكداً أنه لا يجوز ذلك وفق نصوص شرعية جاءت في فتواه.
نص الفتوى:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
إن الأمور محسومة شرعاً، وفيها نصوص صحيحة ومنعقد الإجماع في عدم الترحم على الكفار، ومن المعلوم بالضرورة في الشرع أن اليهود والنصارى وأهل الملل الأخرى كفار، وأن الله حرم عليهم الجنة، والله عز وجل قال في محكم التنزيل: (وَمَنْ يكفر بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة).
ويقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يشرك بالله فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا) (النساء).
كما يقول تعالى: (إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) (النساء).
والله عز وجل يقول: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ.) (التوبة).
وكلام عيسى ابن مريم في نذارتهم صريح في القرآن الكريم، واضح تمام الوضوح، لا يحتمل أي وجه آخر، فإن الله تعالى قال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖإِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (المائدة).
ويقول الله تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران).
الشنقيطي يحذر من التلاعب أو تمييع المصطلحات الشرعية
ومن المعلوم كذلك بطلان أعمال الكفار، الذين ماتوا على الكفر جميعا، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) (النور)، وقال سبحانه وتعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) (الفرقان)، فالجنة لا يدخلها إلا من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فمنذ بعث الله النبي محمد بالهدى ودين الحق، نسخت رسالته كل ما سبق، وأصبح هذا الدين هو المقبول وحده عند الله عز وجل ولا يقبل من أحد ديناً سواه، فمن مات بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد بلوغ رسالته ودعوته إليه، ولم يصدقه ولم يؤمن به، فهو صائر إلى النار قطعاً، لا ريب في ذلك ولا شك، ولا يحل لمسلم أن يشك في ذلك ولا أن يرتاب، ولا أن يفوض في ذلك، ولا أن يتردد فيه أبداً، فالنصوص صريحة صحيحة فيه، وآيات القرآن فيه متواترة وواضحة المعنى، لا إشكال فيها، وهي من المحكمات.
أما ما يتعلق بخطاب عيسى عليه السلام لربه تعالى، فلا بد أن نفرق بين خطابه لبني “إسرائيل”، وخطابه لله، فخطابه لبني “إسرائيل” كان بيناً واضحاً لهم، فقد قال تعالى: (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيل َاعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا للظالمين من أَنصَارٍ) (المائدة)، وأما خطابه لله عز وجل فقد قال: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنت الرقيب عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِن تعذبهم فإنهم عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم) (المائدة).
فإنما تفهم هذه الآية بحملها على المحكم، فكل ما فيه من احتمالات في اللفظ، إنما يحمل على المحكم البين الذي لا إشكال فيه، والنصوص متواترة متكاثرة بينة في هذا، والتشبث بفهم جواز المغفرة للكفار من هذه الآية، هو من اتباع المتشابه.
وقد قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أولوا الألباب) (آل عمران).
فلذلك يحمل قوله: “وإن تغفر لهم” على أنه من دلالة الاقتضاء، وهي دلالة معروفة عند الأصوليين، وهي دلالة على كلام محذوف، لا يتم الكلام إلا به، فيكون معنى الكلام إن تهدهم فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم، فلا يمكن أن يغفر الله لمن مات على الكفر، فقد صرح بأنه لا يفعل ذلك، وأن هذه من سنة الله التي لا معقب لها، وأما الاستغفار للكفار والترحم عليهم، وقد ماتوا على الكفر، فذلك من المعلوم من الدين بالضرورة كذلك أنه حرام، لا يفعله المسلمون، لأن الله قال: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة).
وبين الله أن الكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين، فقال: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر).
وبين أن الملائكة الكرام لا يشفعون إلا لمن ارتضى فقال: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِۦ مُشْفِقُونَ) (الأنبياء).
ولا معنى للشفاعة في كافر مات على الكفر والشرك، فإن الله عز وجل لا يقبل فيه شفاعة الشافعين، والله تعالى حذر رسوله صلى الله عليه وسلم من الاستغفار للمنافقين، الذين يقولون في الظاهر: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة في الظاهر، ولكن الله علم وأطلع رسوله فقال: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة)، فلا يحل للمسلمين الاستغفار للكفار أبداً، والله استثنى ذلك من الاقتداء بسيدنا إبراهيم عليه السلام فقال: (إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) (الممتحنة)، فنحن مأمورون باتباع ملة إبراهيم والاقتداء به، إلا في أمر واحد وهو قوله لأبيه: “لاستغفرن لك”، ولا فرق بين الترحم والاستغفار، فالله سبحانه وتعالى خلق الرحمة، يوم خلقها مائة رحمة، فادخر عنده تسعة وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمة واحدة في الدنيا، فيها يتراحم الخلائق فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها.
الدين حرص على الإنصاف والإحسان إلى المحسن ولو كان كافراً
وهذه الرحمة الدنيوية ينال الإنسان حظه منها، ما دام حياً، فإن مات حينئذ، إذا كان مؤمناً صار إلى الرحمات الأخرى، وإن كان كافراً انتهى نصيبه من الرحمة نهائياً، ولا يمكن أن يناله شيئاً من رحمة الله تعالى، بل أولئك: (لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عذاب أليم) (آل عمران)، ونعم هذه الرحمة الدنيوية وسعت كل شيء، لكن في هذه الحياة الدنيا، قال تعالى: (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (القصص)، والمطر من رحمته: (فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚإِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الروم)، والأرزاق كلها من رحمته الدنيوية التي وسعت كل شيء، أما الرحمة الأخروية فلا تسع المشركين ولا الكفار، ولا من مات مكذباً بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولقد قال الله تعالى: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عذابي أصيب بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فسأكتبها للذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بآياتنا يؤمنون (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يأمرهم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لهم الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا به وعزروه وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف).
هذا شرط صريح في القرآن لا يقبل التأويل، ولا الريب ولا الشك، (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فيه) (البقرة: 2)، وعلى هذا لا يحل الترحم ولا الاستغفار لمن مات على الكفر، من أي ملة كان، سواء كان والد الإنسان أو أمه أو غير ذلك، فإن قيل: إن حكم كفار أهل الكتاب في ذلك يختلف عن غيرهم، لأن الله أباح زواج الكتابيات، فتكون منهم أم المسلم، وقد أمر الله تعالى الولد بالدعاء لوالديه بالرحمة وقال تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء)، قلنا: إن زواج الكتابيات ليس رفعة لشأنهن، بل هو رفع لشأن المسلمين، حيث وسع الله عليهم وأحل لهم ما كان محرماً على غيرهم، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: كان أهل الكتاب يزعمون أن لهم شفوفاً على المشركين حتى أنزلت سورة “البينة”، فجاء فيها قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) (البينة: 6)، فقال أبو بكر: “استوت أكتافهم ورب الكعبة”، وإن كان محسناً في جوانب أخرى فإنما يذكر الإحسان في هذه الجوانب التي أحسن فيها فقط، كرثاء حسان بن ثابت للمطعم بن عدي بالخيار وقد مات على الشرك، لكنه أحسن إلى النبي وهو مشرك، حمية لقرابته، ولذلك رثاه حسان فقال:
ولو أن مجداً أخلد الدهر واحداً من الناس أبقى مجده الدهر مطعماً
والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر يوم “بدر” أنه “لو كان المطعم بن عدي حياً فكلمه في هؤلاء الأسرى، لأطلقهم له”، وهذا يدل على الاعتراف بالجميل لمن أحسن إليك، حتى لو كان مشركاً أو كافراً، فتعترف له بالجميل الذي فعل، وتثني عليه بما فيه من الصفات الحميدة، كثناء عمرو بن العاص رضي الله عنه على الروم بالصفات الخمس، التي في صحيح مسلم، بعد أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم “تَقُومُ السَّاعَةُ والرُّومُ أكْثَرُ النَّاسِ”.
أما لفظ الشهيد فهو وسام شرعي عال، ولقب من ألقاب التشريف، لا يطلق إلا على من يستحقه، فالكفار لا علاقة لهم بهذه الألقاب المشرفة شرعاً؛ لأنها منازل من منازل الجنة، فلا يمكن وصف كافر بأنه نبي أو صديق أو شهيد، ولا يمكن أن تميع هذه الأوصاف بأن يقال: شهيد الكرة أو شهيد بمعنى شهد المعركة، أو شهيد قتله العدو، فلا يجوز أن نقول الصحابي الجليل لأنه صحب الرئيس الفلاني أو الزعيم الفلاني، لأن الصحابي الجليل هو من صحب الرسول صلى الله عليه وسلم ومات على دينه، والشهيد من وصل إلى مقام الشهادة في سبيل الله وهو مقام رفيع من أعلى مقامات أهل الإيمان وشرطها الإيمان، ولا يمكن إطلاق ذلك بقصد تأويل أو بنية معينة، لأن ذلك من تمييع النصوص، وتمييع المصطلحات الشرعية، فهذه المقامات مقام النبوة والصحبة ومقام الخلة ومقام الصديقية، ومقام الشهادة ومقام الولاية، هي مقامات من مقامات الإيمان، ولا يمكن أن تتحقق لمن ليس من أهل الإيمان أصلاً، بل إن من سوء الأدب ومن الإسراف العظيم أن يوصف بها المسلم الذي هو من أهل الإيمان إذا لم يرد نص بذلك أو تقم حجة عليه، فإذا أطلقتها على مسلم قتله العدو ظلماً وعدواناً، أو كان مجاهداً في سبيل الله واستشهد في المعركة، فتقول: الشهيد بإذن الله، فإنك لا تجزم بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأحد بجنة أو نار، إلا من ورد له نص بذلك، والشهيد مجزوم له بالجنة، فلا يجزم لأحد من المؤمنين بالجنة أو النار إلا لمن ورد له نص بذلك كأهل بدر وأهل بيعة الرضوان مثلاً والعشرة المبشرين بالجنة، أما من سواهم فنرجو ونخاف، نرجو له أثر الإيمان، ونعلم أن: (اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس)، كما نخاف عليه عدم القبول وسيئاته، فلا بد أن يكون هذا واضحاً وبيناً لا إشكال فيه ولا ريب.
أما ما يتعلق بالتعامل مع الناس وقول الكلام اللين لهم، والتعاطف مع المبتلين منهم، وبالأخص من وقف معنا، وناصر قضيتنا، فهذا سياسة وأمر آخر يختلف عن ذلك، ولكن لا يحملنا على الكذب على الله ولا يحملنا على تمييع المصطلحات الشرعية والنصوص، فنثني عليهم بما قدموا، ونثني على شجاعتهم، أو على كرمهم، أو على وطنيتهم أو على مقاومتهم أو على صدعهم بالحق، أو وقوفهم مع الحق، كما نثني بهذه الصفات الحميدة على عدد من أهل الجاهلية اتصفوا بالشجاعة والكرم، نثي بالكرم على حاتم الطائي، وقد مات في الجاهلية، كما نثني بالشجاعة على عنترة بن شداد العبسي، ونثني بالمروءة على هرم بن سنان، وغير ذلك من الثناء عليهم بما فعلوا وهم كفار، كما نعلم جميعاً، ولكن لا يحملنا كفرهم على عدم إنصافهم والعدل معهم، فالله سبحانه وتعالى يقول: “وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا“، ويقول تعالى أيضاً: “وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ“، وذلك في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسرائيل لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا منكم وأنتم مُّعْرِضُونَ) (البقرة)، ويقول تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُو االْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖوَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام)، وقال تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) (الإسراء)، وذلك كله مقتض للعدل والإنصاف وعدم التجاوز، ولهذا قال تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖوَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة).
نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم، وأن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، وأن يلهمنا وإياكم السداد والرشاد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.