أصدرت حركة “حماس”، الخميس 15 سبتمبر 2022، بياناً شددت فيه على تأكيد العلاقة مع النظام السوري، وهاجمت “إسرائيل” لاعتداءاتها المتكررة على سورية، رافضة التطبيع مع العدو الصهيوني، ومحاولاته لتهويد المسجد الأقصى، وتهجير الفلسطينيين واستمرار الحصار على غزة.
وأكدت وقوفها مع سورية لاحتضانها المقاومة ودورها التاريخي في القضية الفلسطينية، وأكدت أهمية أن تقوم سورية بدورها ومكانتها في الأمتين العربية والإسلامية، ودعم كل الجهود المخلصة لاستقرار سورية ووحدتها، والوقوف صفاً واحداً لمقاومة الكيان الصهيوني، وأكدت أهمية تعزيز وتطوير علاقتها مع النظام السوري واستئناف علاقتها معه.
وقد أثار هذا البيان جدلاً واسعاً في قطاعات شعبية ووطنية وإسلامية في العالم العربي لانحيازه للنظام السوري وإعادة العلاقات معه، والذي لا يخفي على الشعوب العربية ولا “حماس” دمويته ودكتاتوريته ضد شعبه، وما زال شعبه ما بين قتيل وجريح ومهاجر ومطارد وسجين طيلة عقود مضت وإلى اليوم.
تقدير الموقف
يعتقد الكثيرون أن لـ”حماس” الحق في تقدير مصالحها وترتيب علاقاتها مع كل الأنظمة التي ترى أن مصلحتها أن تستأنف أو تتحالف معها لخصوصية وضعها المستضعف والمحاصَر، وأن المصلحة ما هي إلا تقليل المفاسد ودرء أكبرها دون صغارها، وأن العلاقات تدخل ضمن أبواب السياسة الشرعية، وأن “حماس” لا تجد معيناً لها في ظل حصار وتطبيع عربي ودولي، وأن الشعوب والحركات الحية أضعف من أنها تنجد أو تساعد “حماس” في صمودها أو مواجهة العدوان عليها، لذلك فهي تلجأ إلى إيران وسورية و”حزب الله” والحوثيين في منظومة وضعت تحت مسمى “محور المقاومة”.
فـ”حماس” مضطرة للالتحاق بهذا المحور لأنه يوفر لها الدعم المادي والسلاح والخبرة وحتى الدعم السياسي.
والمنصفون لا يعارضون أن تقدر “حماس” لنفسها موقفاً سياسياً أو إستراتيجياً لأنها حركة مجاهدة وليست تتوقف عند الفعل السياسي، كما أنها مسؤولة عن شعب محاصَر في غزة، وبالتالي فهي تمارس مهمات دولة صغيرة تتعامل مع دول تحيط بها وتحاصرها باتفاق دولي.
لكنَّ المشكلة تكمن في عدة أمور:
الأول: في طبيعة خطابها الإعلامي والسياسي، إذ تحرص “حماس” دائماً بوصف حلفائها (إيران والنظام السوري و”حزب الله” والحوثيين.. وغيرهم) بأوصاف لا يصدقها معارضو “حماس” وحتى محبوها.
فالمحور الإيراني في الحقيقة ليس محور مقاومة لتحرير فلسطين، وإنما محور لمقاومة نفوذ خصوم وأعداء إيران في المنطقة والجغرافيا العربية التي يمتد فيها النفوذ الإيراني.
فمحور المقاومة منذ أن تبنته إيران كمسمى “جاذب وبراق ومثالي” هو محور وظيفي لا يختلف عن المحاور الأخرى مثل “محور الاعتدال العربي”، “محور الثورة المضادة”، “محور التطبيع”، في أداء وظائف ليس منها تحرير القدس أو فلسطين من أيدي الصهاينة، باستثناء بالطبع حركة “حماس”، التي تعاني وحدها معركة التحرير والمقاومة الحقيقية.
الصراع داخل الجغرافيا العربية (العراق وسورية ولبنان واليمن) هو صراع نفوذ بين إيران كقوة إقليمية، ومجموعة من الدول العربية والكيان الصهيوني والحليف الأمريكي، وليس من أجندة هذه القوى وعلى جدول أعمالها تحرير فلسطين ومقاومة العدو الصهيوني في فلسطين.
لم تحارب إيران “إسرائيل” حرباً حقيقية حتى عندما ضربت “إسرائيل” مفاعلات وقواعد إيرانية، وحتى عندما قُتل سليماني، بل العكس صحيح، إن إيران عن طريق حلفائها قصفت مؤسسات حيوية نفطية في السعودية ومطارات وقواعد عسكرية ولم تتجرأ أن تقصف بصاروخ واحد على “إسرائيل” أو تنجر لحرب معها.
أما “حزب الله” فهو بالطبع يدافع عن مواقعه ونفوذه في لبنان ولم يتعدَّ شبراً واحداً خارج الحدود اللبنانية منذ عام 2006، وفق اتفاق وضمانات، وإنما حارب “حزب الله” الشعب السوري طيلة 10 سنوات ماضية وما زال.
ولا يسعنا شرح منظومة المليشيات الإيرانية والعراقية وغيرها في العراق وسورية واليمن وسيطرتها على جغرافيا العرب في هذه البلدان.
ولم تثبت لنا “حماس” أيضاً أن النظام السوري عبر 55 عاماً أطلق رصاصة واحدة ضد “إسرائيل”، بل إن النظام ساهم في تطويع وتهميش قوى المقاومة وانساق مع الترتيبات في إنهاء الوجود للقوى الفلسطينية ووضعها تحت الوصاية والإحاطة حتى لا تخرج عن الدور الوظيفي المرسوم له كنظام براغماتي.
الانتقاد الموجه لـ”حماس” ليس تقديرها لموقفها، وإنما لإصرارها في خطاباتها المؤذية للشعوب العربية في العراق وسورية واليمن ولبنان على أنها مع صمود محور المقاومة الذي في حقيقته كمحور دمر جغرافيا بلدانهم وأعاد ترتيب ديمغرافيتها وهجر الملايين منها.
فالخطاب الإعلامي مضلل للناس ولمحبي “حماس” واستعلائي ويريد من أهل المنطقة أن يؤمِّنوا على الموقف بحجة الضرورات ودرء المفاسد والمصالح الخاصة بحركة “حماس”.
تعذر “حماس” في اتخاذها لمواقفها فهذا شأنها، لكنها تخطئ عندما تعتقد أن خطابها الإعلامي السياسي يجب أن يفرض أو يصدقه عرب الملاجئ والسجون والدماء المهدرة في محور المقاومة.
وما يجب أن تفهمه “حماس” أنها تدحرجت تدريجياً لتتحول من حركة مستقلة مجاهدة إلى حركة وظيفية في محور إيران، وهذا ليس عيباً في العمل السياسي الإستراتيجي؛ إذ إن هذا خيار ضاغط، ولكن فقط لوضع الحقائق في موطنها الصحيح، وإن لذلك استحقاقاته كما إن له منافعه والمصالح منه، وكذلك مغارمه وارتداداته المستقبلية.
وهو ما يجب أن تفكر فيه “حماس” لتقليل خسائرها قدر الإمكان.
الثاني: كثيراً ما تعتمد “حماس” في موقفها على تحليلها للأوضاع لتقدير موقفها بتعميق وتجذير التحاقها بمحور إيران بالمتغيرات العالمية الجديدة.
إذ ما زالت التقارير المعلوماتية والرصدية تعطي اتجاهات في أن بوادر وإرهاصات تغيير في النظام العالمي، وأن روسيا والصين تتجهان نحو قطبية منافسة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بناء على نتائج انعكاسات الحرب الأوكرانية التي تضرر منها الاقتصاد الأوروبي والأمريكي، وهذا ينتج عنه وضع إقليمي جديد يجب استغلاله، وإعادة التموضع في كفة إقليمية مستقطبة نحو القطب الروسي والصيني (لاحظ زيارة إسماعيل هنية لروسيا).
والحقيقة أن كل الأطراف في الحرب الأوكرانية متضررة، وروسيا تواجه احتمالات الهزيمة والفشل وارتفاع عدد قتلاها وخسائرها العسكرية مرتفعة، وهي لم تحتل إلا أقل من 20% من أوكرانيا، وتبحث للخروج المشرّف من حربها تلك، وتحاول روسيا تسويق وضعها وصمودها في هذه الحرب على حلفائها، ومناطق نفوذها، لذا فالاتكاء على تغير في الموازين والقوى والاستقطاب ما زال يحتاج إلى مزيد من التفحص واليقين.
إذا علمنا أن الكارثة الاقتصادية العالمية قادمة لا محالة، وهي ستؤثر على كل دول العالم وستكون الكيانات الأضعف أكثر تأثراً أو انسحاباً أمام الأقوى.
لذا، فإن أهمية التدقيق في تحليل الأوضاع واتخاذ تقدير للموقف يجب ألا يبنى على الرغبات والانحيازات العاطفية، وإنما يجب أن يبنى على الوقائع والاتجاهات الحقيقية للسياسة العالمية.
وهو ما يتطلب من “حماس” التعامل معها بعقلية الاستيعاب السياسي وليس الأفق العسكري والمقاوم.
وأخيراً، فإن “حماس” لم تعد تتكئ على الحاضنة السُّنية، وتعتبر أن الحركة الإسلامية السُّنية فقدت قدرتها وإمكاناتها على دعم المقاومة الفلسطينية، وأن الشعوب العربية تظل رقماً ضعيفاً في معادلات الحرب والتغيير والمقاومة، لذا فلا يهم الخطاب الإعلامي الصادم لها والموجَّه من “حماس”، فهي ستتعود على مثل هذه الخطابات الثورية المقاومة والمنحازة لمحور إيران.
وإن هذه الشعوب مجبرة عقائدياً ودينياً على نصرة فلسطين، فهي لن تتخلى عن القضية الفلسطينية والقدس، ولو صدرت البيانات السياسية والإعلامية تمجد إيران ومحور المقاومة، فالاعتبار الأول والأخير هو مصلحة حركة “حماس” وشعب غزة، وليس مصلحة أي شعب آخر، لذا الإصرار على إصدار تصريحات ومواقف وبيانات بين الحين والآخر لتعزيز الانحياز للمحور الإيراني سيصبح الأصل في علاقات “حماس” في موقفها من إيران وحلفائها دون الأخذ بالاعتبار للشعوب العربية المهدرة كرامتها إيرانياً وعربياً ودولياً، فالشعوب العربية والحركات الإسلامية هي الحلقة الأضعف في هذه المعادلات، لذا لا خشية من إصدار تلك المواقف، إذ إن ردود الفعل لن تكون أكثر من ردود إعلامية سينتهي زخمها مع مرور الوقت.
بالطبع، ستدرك “حماس” في النهاية أن الحاضنة السُّنية، والشعوب العربية المستضعفة هي خيارها الوحيد، إذا تمت التفاهمات بين إيران والولايات المتحدة و”إسرائيل”، والمنظومات العربية، للاستقرار السياسي في المنطقة؛ إذ تلك التفاهمات ستقرر أن تحرير القدس وفلسطين هي آخر اهتمامات تلك الدول.
الخلاصة
“حماس” يحق لها أن تقدر موقفها الذي يحفظ مصالحها، لكن عليها أن تعيد تأسيس خطابها السياسي والإعلامي، وأن تقلل خسائرها من مواقفها، وألا تلوم الآخرين إذا خالفوها وحتى إن هاجموا مواقفها، وعليها أن تستعد لجني المغارم مثل ما تتوقع من جني المصالح ودرء المفاسد.