هكذا ظهر الوجه القبيح لمنكري السُّنَّة في العصر الحديث، فبعد كل محاولاتهم اليائسة وشبهاتهم التافهة التي أثاروها حول السُّنَّة النبوية المطهرة، علموا أنه من المستحيل أن يصيبوا السُّنَّة في مقتل، أو ينجحوا في عزلها عن الأمة، أو عزل الأمة عنها، وما دام الأمر كذلك فليحولوا حقدهم على السُّنَّة وجهة أخرى، وليقولوا للمسلمين:
إن السُّنَّة ليست مصدراً للتشريع مع القرآن، فالقرآن وحده يكفي، وضم السُّنَّة إليه بدعة وضلالة، وهي التي كانت سبباً في نكبة المسلمين، من عهد الشافعي إلى هذا اليوم؟! ([1])
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
إن إنكار حجية السُّنَّة أمر ليس بجديد، فلقد بدأه الزنادقة قديماً منذ عهد الإمام الشافعي رضي الله عنه، وقد رد عليهم في مناظرات مشهورة جرت بينه وبين أحد الزنادقة وسجلها الإمام الشافعي رضي الله عنه في كتابه “جماع العلم” ([2]).
وممن أنكر حجية السُّنَّة قديماً الغلاة من الروافض وغيرهم وليس لهم سند واحد مقبول، سوى المغالطات والأوهام، أما حديثاً فقد استندوا في إنكارهم لحجية السُّنَّة إلى شبهات واهية، منها:
– استدلالهم بقوله تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ) (الأنعام: 38).
فقد أكدوا أن المراد من الكتاب في الآية الكريمة هو القرآن، وهو مشتمل على جميع الأحكام المتعلقة بأعمال المكلفين، ولو كان عند هؤلاء ذرة من عقل لظهر لهم خطأ قولهم؛ إذ لا دليل على أن الكتاب في الآية هو “القرآن” فقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن المراد به اللوح المحفوظ، الذي حوى ما كان وما هو كائن وما سيكون حتى يرث الله الأرض وما عليها. ([3])
وهذا التفسير لا يترتب عليه أي حرج عند من يقول به، أما من قال إنه القرآن فإن رأيه مرجوح ويترتب عليه مجموعة من الأسئلة التي يصعب على صاحب هذا الرأي أن يجيب عنها، فماذا يقول لمن يسأله عن أعداد الركعات في كل فريضة من الصلوات الخمس؟، وماذا يقول لمن يسأله أين نجد في القرآن أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة؟، وماذا يقول لمن يسأله أين نجد في القرآن الأموال الربوية وغير الربوية؟، وماذا يقول لمن يسأله أين نجد في القرآن صيغة الأذان الذي يردد خمس مرات كل يوم وليلة؟!
– كما استدل منكرو السُّنَّة على شبهتهم بقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، ووجه الاستدلال عندهم: أن الله تعهد بحفظ الذكر، وهو القرآن، ولم يتعهد بحفظ السُّنَّة فلو كانت السُّنَّة مصدراً تشريعياً مع القرآن لتعهد الله بحفظها كما تعهد بحفظ القرآن؟!
وهذا القول ينم عن جهل فاضح، لأن السُّنَّة النبوية بيان أو تبيين للذكر، وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44).
وقد قال منكرو السُّنَّة: إن السُّنَّة ظنية لا قطعية، وهذا مردود عليهم لأن هذه “الظنية” كما توصف بها السُّنَّة يوصف بها كثير من أدلة الأحكام في القرآن الكريم؛ لأن القرآن وإن كان قطعي الثبوت فدلالاته الاحتمالية أو الظنية لا تكاد تحصى، ولم يجرؤ أحد على القول بأن القرآن ليس مصدراً للتشريع فيما كانت دلالته احتمالية ظنية ويلزم هؤلاء التسوية بين ظنيات السُّنَّة، وظنيات القرآن.
وإذا قالوا: إن ظنيات القرآن تختلف عن ظنيات السُّنَّة، حيث أن ظنيات السُّنَّة تكون في أصل الدليل، وهو الحديث -ثابت أم غير ثابت- وظنيات القرآن لا تكون في أصل الدليل، وإنما في فهم معنى الدليل.
إذا قالوا ذلك قلنا لهم: إن المعتبر في القرآن والسُّنَّة معاً هو النظر في الدلالة لا في أصل الدليل وحده، لأن ظنية الدليل يترتب عليها ظنية الدلالة، فالمُعَول عليه في القرآن والسُّنَّة هو الدلالة المستفادة من الدليل (الآية – الحديث) فالأمر يؤول في النهاية إلى الدلالة، وظنية الدلالة كما توجد في السُّنَّة توجد في القرآن، فلماذا التفريق بين المتساويين؟
أدلة حجية السُّنَّة
لقد ثبتت حجية السُّنَّة في التشريع الإسلامي بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وإجماع العلماء.
أولاً: القرآن الكريم
– قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: 59).
فقد أثبتت هذه الآية طاعة خاصة للرسول صلى الله عليه وسلم بعد طاعة الله وأوجبت عند النزاع في شيء الرد إلى الرسول بعد الرد إلى الله وقد أجمع علماء الأمة على أن الرد إلى الله هو الاحتكام إلى كتابه العزيز وأن الرد إلى الرسول هو الاحتكام إلى سنته القولية والعملية ولو لم يكن في القرآن عن السُّنَّة إلا هذه الآية لما طلبنا مزيداً يثبت لنا حجية السُّنَّة.
– وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) (النساء: 64).
وهذه الآية نص قطعي الثبوت والدلالة على وجوب طاعة الرسل جميعاً سواء في ذلك طاعتهم فيما أنزل إليهم، وما قالوه هم، لأنهم معصومون من الخطأ في التبليغ، وإن كره الكافرون.
– وقوله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) (النساء: 65).
وهذه الآية نص قطعي الثبوت والدلالة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الإيمان لا يتحقق إلا بالإيمان به بعد الإيمان بالله، وتحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم هو تحكيمه شخصياً في حياته، والاحتكام إلى سنته بعد وفاته حتى تقوم الساعة.
– وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا) (الأحزاب: 36).
وهذه الآية نص قطعي الثبوت والدلالة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مثل وجوب طاعة الله عز وجل، وطاعة الرسول الخاصة تكون باتباع سنته، ومن حاد عن الاتباع فقد ضل ضلالاً مبيناً.
– وقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (الحشر:7).
وهذه الآية نص قطعي الثبوت والدلالة، يأمر الله تعالى فيها المسلمين بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به وفيما نهى عنه.
فهل يحق لأحد بعد هذه الآيات البينات أن يطلب دليلاً على حجية السُّنَّة من القرآن الكريم؟
ثانياً: الأدلة من السنة
تعددت الأحاديث الدالة على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتنوعت فيمكن تقسيمها موضوعياً إلى:
الأحاديث الدالة على أن السنة تماثل القرآن في الحجية وأنه لا يمكن معرفة الشرع من القرآن وحده:
– قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أركته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله) ([4]).
– قوله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس إني ما آمركم إلا ما أمركم به الله، ولا أنهاكم إلا عما نهاكم الله عنه..) ([5])
– قوله صلى الله عليه وسلم:(من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله) ([6])
– وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين بدأ غريباً ويرجع غريباً فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسده الناس من بعدي من سنتي) ([7])
الأحاديث التي يأمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بسنته ويحذر من اتباع الهوى والاستقلال بالرأي:
– قوله صلى الله عليه وسلم: (دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم). ([8])
– عن عائشة رضي الله عنها قالت: (صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ترخص فيه فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (ما بال قوم يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية). ([9])
– عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً؛ فإنه من يعش منكم سيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين: تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) ([10])
الأحاديث التي فيها الأمر بسماع السنة وتبليغها ونشرها بين الناس مما يدل على حجيتها:
– قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (ألا فليبلغ الشاهد الغائب) ([11])
– قوله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداه، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ([12])
– قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم خلفائي، قلنا يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي، ويعلمونها الناس). ([13])
– قوله صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية وحدثوا عني ولا تكذبوا فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). ([14])
ثالثاً: الإجماع
أجمع المسلمون سلفاً وخلفاً، منذ عهد الصحابة الكرام على أن السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم حجة شرعية موجبة لاعتقاد مضمونها والعمل بمقتضاها، ولم ينازع في ذلك أحد من أهل الإسلام، بل لا نجد منهم إلا متمسكاً بها، محذّرا من مخالفتها، مدافعاً عنها، عاملاً لإحياء ما أمات الناس منها، ناشراً لعلمها، مذكراً بمكانتها، راجعاً عن رأيه إليها، وقد تواتر عن الأئمة الأربعة وغيرهم نحو هذه العبارة: “إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عرض الحائط”.
فهذا الأصل أعظم من أن يناقش وأبين من أن يُختلف عليه، وقد نقل الإجماع عليه كثير من العلماء منهم: الشافعي وابن عبد البر وابن حزم وابن تيمية وابن القيم.
– قال الإمام الشافعي: “لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليم لحكمه، بأن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بحال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد”.
– وقال الإمام ابن حزم: “ولو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن، لكان كافرا بإجماع الأمة”
– وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وليُعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقا يقينياً على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله” ([15]).
______________________________________________________
[1] – الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة – 1/188 – الدكتور عبد العظيم المطعني رحمه الله
[2] – مناظرة الإمام الشافعي مع منكري السُّنَّة أوردها الدكتور مصطفى السباعي في كتاب “السنة ومكانتها” – ط المكتب الإسلامي – 1/144.
[3] – القرآن الكريم – مفاتيح الغيب للرازي – تفسير سورة الأنعام – الآية 38
[4] – سنن أبى داود ٥/ ١٠ – ١١ ح ٤٦٠٤.
[5] – رواه الطبراني في الكبير.
[6] – البخاري مع الفتح ١٥/ ١٧٤ ح ٧٢٨٠.
[7] – سنن الترمذي ٥/ ١٩ ح ٢٦٢٩.
[8] – البخاري مع الفتح ١٥/ ١٧٦ ح ٧٢٨٨.
[9] – البخاري مع الفتح ١٥/ ٢٠٦ ح ٧٣٠١.
[10] – سنن أبى داوود ٥/ ١٣ – ١٤ ح ٤٦٠٧.
[11] – البخاري مع الفتح ١/ ٢١٣ ح ٦٧.
[12] – سنن ابن ماجه ١/ ٨٦ ح ٢٣٠٦.
[13] – الخطيب البغدادي ص ٣٠ – ٣١ ح ٥٨.
[14] – البخاري مع الفتح ٧/ ١٧٤ ح ٣٤٦١.
[15] – بتصرف من كتاب: “حجية السنة” – المؤلف: الدكتور حسين الشواط – 1/230.