في المقال السابق تحدثنا عن البيئة الحاضنة لأفكار الفيلسوف الألماني “نيتشه”، ومدى قابليتها لتلك الأفكار، ثم جنوح بعض مكونات البيئة الحاضنة لأفكاره عن مقصوده منها.
ونستمر في المسار ذاته بنموذج آخر هو المفكر الإسلامي الكبير “سيد قطب“.
كلا المفكرين كان عالِما لغويا وأديبا من طراز فريد، وكلاهما كان متمردا على واقع قومه، ويحلم بحرية الإنسان، وبعالم جديد، تسوده قيم جديدة؛ الأول يراه عالما متحررا من أي قيود دينية، والثاني يراه عالما تحكمه شريعة الله. الأول يراه بقيادة الإنسان الجديد (السوبر مان) -بديل الإله-، والثاني يراه بقيادة الطليعة المؤمنة التي تزيل الجاهلية وتعيد الحاكمية لله. والأول يرى حرية الإنسان في أن يصير إله نفسه، والثاني يرى حرية الإنسان في أن يكون عبدا خالصا لله وحده. الأول بنى مشروعه على هدم قيم العبودية والخنوع التي زرعتها الكنيسة، والثاني بناه على هدم القيم الجاهلية التي تسود الكون في غربه وشرقه، وبناء قيم جديدة مصدرها الإسلام وحده.
“سيد قطب” ومشروعه الفكري
“سيد قطب” يختصر مشروعه الفكري في مقدمة كتابه (معالم في الطريق) -بتصرف-:
“الحضارة الغربية بمعسكريها الغربي والشرقي وضعا مستقبل البشرية على حافة الهاوية؛ لأنهم أفلسوا أخلاقيا ولم يعد لهم من القيم ما يحفظ للبشرية استمرارها.
والبديل المنقذ هو قيادة جديدة تملك إبقاء وتنمية الحضارة المادية التي وصلت إليها البشرية، عن طريق العبقرية الأوروبية في الإبداع المادي، وتزود البشرية بقيم جديدة، وبمنهج أصيل وإيجابي وواقعي في الوقت ذاته.
والإسلام وحده هو الذي يملك تلك القيم وهذا المنهج، فضلا عن أن الإسلام لا يتنكر للإبداع المادي في الأرض، ويعتبر عمارة الأرض عبادة لله، وتحقيقا لغاية الوجود الإنساني”.
إذن هو يبشر بمشروع إسلامي عالمي يحل محل الحضارة الغربية التي أفلست في أن تقدم للإنسانية قيماً تعلو فيها قيمة الإنسان وتحفظ له كرامته، وفي الوقت ذاته يعترف للحضارة الغربية بدورها الرائد في التقدم المادي، ويرى أنه جزء من عمارة الأرض التي دعا إليها الإسلام، ويدعو للبناء عليه وتنميته باعتباره مكتسبا للبشرية.
والقاعدة النظرية التي يقوم عليها مشروعه الإسلامي هي قاعدة: “شهادة أن لا إله إلا الله”، أي إفراد الله سبحانه بالألوهية والربوبية، والقوامة والسلطان والحاكمية .. إفراده بها اعتقادا في الضمير، وعبادة في الشعائر، وشريعة في واقع الحياة” (معالم في الطريق ص ٤٨).
ويرى في هذا المشروع رسالة عالمية لتحرير للإنسان :
“إن هذا الدين ليس إعلانا لتحرير الإنسان العربي وليس رسالة خاصة بالعرب.. إن موضوعه هو الإنسان.. نوع الإنسان.. ومجاله هو الأرض.. كل الأرض.. إن الله سبحانه ليس ربا للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم.. إن الله هو رب العالمين وهذا الدين يريد أن يرد العالمين إلى ربهم، وأن ينتزعهم من العبودية لغيره” (معالم في الطريق ص 62).
ويبشر بطليعة مؤمنة تحمل هذا المشروع، ويرسم هو لها ثلاث معالم رئيسة في الطريق:
أولا: القرآن هو النبع الأول الذي تستقي منه الطليعة المؤمنة.
ثانيا: على الطليعة المؤمنة أن تتلقى تعاليم القرآن تلقي التطبيق وليس مجرد تثقيف.
ثالثا: على الطليعة المؤمنة أن تنفصل انفصالا كليا عن حياة الجاهلية التي كانت تحياها قبل التزامها.
(عن “معالم في الطريق” – تحت عنوان: جيل قرآني فريد).
فهو -كما نرى في طريق عرضه لمشروعه- استخدم بعض المصطلحات مثل: (الطليعة المؤمنة) – (المجتمع الجاهلي) – (الحاكمية لله)…
هذه المصطلحات قادت بعضا من البيئة الحاضنة لأفكاره إلى الجنوح عن مقصده -بحسب وجهة نظرنا- وقادت الآخرين لاتهامه بالتعصب والإقصاء وتكفير المجتمع.
هل الجاهلية تعني التكفير
وبالوقوف عند أكثر مصطلحاته إثارة للجدل (المجتمع الجاهلي)، التي استخدمها بعضهم حجة لتكفير المجتمع، واستخدمها آخرون لاتهام “قطب” بتكفير المسلمين؛ فهو يقوم بتعريف المجتمع الجاهلي بقوله: “هو المجتمع الذي لا يُطَبَق فيه الإسلام، ولا تحكمه عقيدته وتصوراته، وقيمه وموازينه، ونظامه وشرائعه، وخلقه وسلوكه…” (معالم في الطريق تحت عنوان “الإسلام هو الحضارة”).
ونستطيع أن نقول -بحسب وجهة نظرنا- إنه كان بمقدور “سيد قطب” أن يسميه مجتمعا كافرا إذا كان يقصد التكفير، لكنه استخدم هذا المصطلح عن قصد، وهو مشتق من الجهل، وهو لا يخُصُ به مجتمعا دون مجتمع؛ فهو يرى أن الجاهلية تعم الأرض كلها، وهو بهذا لا يمارس التمييز ضد دين أو جنس أو لون، فجميعهم في الجاهلية سواء.
وإذا أردنا أن نتوسع في حسن النية في تلقي المصطلح، فإن اشتقاقه من الجهل يحمل في طياته براءة لفاعله من التعمد، أو المعاندة بعد المعرفة، وعليه فإنه يحمل من الشفقة فوق ما يحمل من احتمال العنف.
وعلى سبيل التطبيق لمصطلحه، فإنه ينطبق على مجتمع “مكة” قبل الفتح، برغم وجود النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام كجزء من ذلك المجتمع، وبديهي أن جاهلية مجتمع مكة قبل الفتح لا تعني كفر كل ساكنيها.
وفي السياق ذاته؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين تجاوز في حق “بلال بن رباح” ووصفه بابن السوداء: “إنك امرؤ فيك جاهلية”، ليس فيه شبهة التكفير، بل يوحي بأن ما فعله “أبو ذر” ينتمي إلى أخلاق مجتمع الجاهلية قبل ظهور الإسلام.
ثم؛ لماذا يتم حصر الجاهلية في الاعتقاد فقط، ولماذا لا ينسحب على الأخلاق والسلوك، وانتشار الفساد والطغيان والاستقواء على الضعفاء واستعباد الشعوب وغياب العدالة الاجتماعية؟! فكل هذه المعاني من الجاهلية التي أراد “قطب” هدمها، وشغلَت حيزا كبيرا من مشروعه الفكري.
فكرة خطرة
وبرغم رؤيتنا بأن مصطلح “الجاهلية” لا يعني التكفير، فإننا كذلك ذلك نرى أن المنهج الذي خطه “قطب” للطليعة المؤمنة يحمل في طياته انعزالا شعوريا عن المجتمع، وقد يتطور لنوع من الاستعلاء والانفصال عن المجتمع، وهو الذي قد يؤدي في النتيجة للصدام بين حملة المشروع والمجتمعات التي ينتمون لها.
ففي كتابه “معالم في الطريق” يقول:
“وفي طريق تكاثر هذا المجتمع -الطليعة المؤمنة- تكون المعركة قد قامت بين المجتمع الوليد الذي انفصل بعقيدته وتصوره، وانفصل بقيمه واعتباراته، وانفصل بوجوده وكينونته، عن المجتمع الجاهلي، وتكون الحركة من نقطة الانطلاق إلى نقطة الوجود البارز المستقل قد ميزت كل فرد من أفراد هذا المجتمع” (ص 118).
البيئة الحاضنة خارج الوطن العربي
ولكي نلقي ضوءا كاشفا على اختلاف تلقي البيئة الحاضنة للأفكار، ونموذجنا هنا الشهيد “سيد قطب”، فإن تأثيره في “إيران” كان تأثيرا ثوريا، فقد تعرف الإيرانيون على كتاباته في الستينيات بعد قيام “علي خامنئي” المرشد الحالي للثورة الإيرانية بترجمتها، ومثّلت مع أفكار “علي شريعتي” مَعِيناً ثوريا للأجيال التي صنعت الثورة الإيرانية.
بينما في تركيا تلقفتها الشبيبة المسلمة المناهضة للعلمنة المتطرفة داخل تركيا، ولم تفهم منها أو تحولها إلى أي مظهر من مظاهر العنف، بل تعدى تأثيره إلى الاتجاه اليساري داخل تركيا، فقد وجد المفكر اليساري التركي “دوغان آفجي أوغلو” في كتاب “العدالة الاجتماعية في الإسلام” مادة ملائمة للتعبير عن الحركة اليسارية للمسلمين في تركيا.
مفكر مجتهد محترم
وختاما؛ فإن الشهيد “سيد قطب” مفكر مجتهد، ترك وراءه إرثا فكريا يحمل من الأسئلة المفتوحة أكثر مما يحمل من الإجابات الجاهزة، ويحمل من العموميات أكثر مما يحمل من تفاصيل، وهو فكر بشري يحتاج إلى مراجعة وتنقيح وأخذ ورد.
وفي كل الأحوال؛ لا يملك القارئ المنصف لكتاباته وسيرته إلا أن ينحني لقامته السامقة احتراما، فهو طراز فريد في صدق الكلمة، تشعر بصدقه من نبض حروفه، وتتعالى دقات قلبك مع نبضها، وتشعر أن روحه قد تلبستك وامتلكت عليك حواسك، وكأنه يسكب من روحه في روحك، ويضخ من دمائه في عروقك.
كيف لا وهو ذاته كان متلبسا بأفكاره وكلماته مجسدا لها في سيرته، مستعليا بها على آلامه ومعاناته، مقدما روحه فداء لصدق كلمته:
أخي أنت حر وراء السدود *** أخي أنت حر بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما *** فماذا يضيرك كيد العبيد؟