والمستعمرات التي نعنيها ليست مساحات من الأرض وقعت تحت وطأة الاحتلال الأجنبي، ولكنها نفوس معينة استحلت الدنيا وكرهت الصعود صبها الغزو الثقافي في قوالبه، فخرجت من بين يديه ولها ملامح مادية وأدبية جديدة من صنع المالك الأخير.
ولو انتقلت إلى مالك غيره لصبها على شكل آخر، فخرجت ولها ظاهر وباطن يحملان الطابع المراد إنها نفوس فقدت خصائصها وعاشت كما رسموا لها لا تعقل من دين الله ولا من تاريخ أمتها شيئاً يذكر.
والغزو الثقافي، منذ قرن، لم يضع وقته سدى ولا ريب أنه استكثر من هذه النفوس الإماء، ثم مولها وسلحها وسلطها، ثم تركها تنوب عنه في الفتك بكل ما يكره.
من هؤلاء، أستاذ جامعي يقول عن نفسه: أنا لا أصلي ولا أصوم، ولكني مؤمن وينسب هذا الأستاذ الماجن إلى الصوم والصلاة أنهما سبب فصله من الوظيفة وقطع الرزق، تقول مجلة صوت الجامعة التي نشرت الحديث السفيه: «لقد أراد أن يشكر الله كما نشكر كل من أسدى خدمة فصلَّى حوالي شهر، إلا أنه فوجئ بالفصل من وظيفته في السابع والعشرين من رمضان، فقرر على الفور الكف عن الصلاة، والامتناع عن الصيام… وقد كان!
وظاهر من هذا الكلام أننا مع شخص عابث يلعب بالقيم كلها، فلو ترك العبادة كسلاً لتوارى عن المجتمع خجلاً، أما وهو يتركها عامداً متعمداً- فهو كافر بالله لا يختلف في ذلك أهل الإيمان، وكلامه عن العرف لا وزن له، فهو يقول: “إذا تعارف الناس على شيء واعتادوه، أصبحت له قوة الدين ومكانته” كذبت.. فكم من عرف خاطئ استمات المصلحون في مقاومته حتى أزهقوه، وما أكثر المجتمعات التي تعارفت على الإلحاد والانحلال.. فهل ذلك دين يكفر منكروه؟
وقد نقلت مجلة صوت الجامعة، فكر هذا الأستاذ الجامعي، وزعمت أن له دليلين من الكتاب والسُّنة، أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لَمَن يَشَاءُ) (النساء: ٤٨)، وهذا استدلال مردود، فإن إنكار الألوهية أصلاً أشد من الشرك وليس دونه، ورفض الانقياد لله كذلك ليس دون الشرك قط.
وقد كان إبليس كبير العصاة يعلم الله موجود كيف لا وهو يتلقى أوامره مباشرة؟ ومع ذلك فقد رفض تنفيذ ما صدر إليه من أمر قيل له: اسجد، قال: أنا أكبر من ذلك، وهذا غير ما فعله الأستاذ الجامعي الماجن، قيل له: صل، قال: الصلاة شؤم! ومضى في سخف يصف الفتيات العفيفات الفاضلات بالشذوذ، مقلداً امرأة تنشر الريبة في بلادنا.
ولو أن هذا المرء أعلن ارتداده لكشف عن نفسه وانحصر شره، لكنه يريد باسم الإسلام إفساد الإسلام، يريد إماتة هذه النصوص، وصرف الأجيال الناشئة عن الارتباط بها.
أما الحديث الشريف الذي يلوكه هذا الأستاذ بغباء فهو قوله عليه السلام: “إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم”، وهذه الكلمة رواها مقطوعة عما قبلها وعما بعدها، وهي إنما تفيد محاربة المرائين الذين يتظاهرون بالخير وقلوبهم هواء، ولا تعني يسير أحد مكشوف السوأة بحجة أن الله لا يهتم إلا بالقلوب.
ونحن نلوم المجلة التي نشرت هذا الحديث بلا تعليق، وكان عليها إما أن ترمي به مع القمامة، وإما أن تنشر معه رداً واعياً لأحد العقلاء، أما إهانة الإسلام في الجامعة بهذه الصورة.. فلا.
وقد يكون من هذه الإهانة المقصودة أن تنشر المجلة استنكاراً لتخصيص أماكن للسيدات في المواصلات العامة لأننا كما تقول الكاتبة في القرن العشرين ونسأل: هل التحكك بالنساء كان حراماً في الماضي ثم أبيح الآن؟، إن النساء الشريفات يشعرن بالحرج البالغ لتلاصق الأجساد في السيارات المشحونة كعلب السردين.. فهل يقال لهن: تعلمن التقدمية الجديدة، وسرن معها إلى آخر الطريق هذا ما تريده المجلة التي نشرت مفاجأة هابطة لـ “أتوبيس” الطلبة جاء فيها: “لا تفكر في تطبيق التجربة، وإلا فسيهجرك الكثيرون والكثيرات ممن يخرجون مثنى ورباع من الجامعة وكفانا حواجز داخلية وخارجية”.
“كفانا حواجز” ولننطلق مع غريزتنا ولنحشر مع القرن العشرين قرن الترحيب بصيحات المراهقين.
هكذا نشرت صوت الجامعة وصية فتاة اسمها مني ثابت لا أعرف إلى أي ومن تنتمي، لكني أؤكد أنها لا تعرف وصايا السماء.
ولندع المستعمرات الصغيرة إلى مستعمرة كبيرة.. مستشار أحيل على المعاش، كتب في الأهرام، صفحة ضد الطلاق وتعدد الزوجات، ولقد حاولت أن أتذكر بحثاً لهذا القانوني يدافع عن الحدود في الإسلام فلم أجد.. أي أنه ما اهتم قط بإبعاد الشريعة الإسلامية عن عالم القانون، وها هو ذا اليوم يكتب في قوانين الأسرة يبغي تنصيرها، ولكن باسم الإسلام، هذا هو العجب لم التمسح بالإسلام عند محاولة القضاء على تعاليمه؟
إن كل الأشخاص الذين يهاجمون «قانون الأسرة الإسلامي» نلحظ عليهم هذه الظاهرة السمجة ضرب الإسلام باسم الإسلام والمستشار الذي نشر هجومه أخيراً، زعم أن الآيات التي تبيح التعدد هي التي تمنعه، لأنها جزمت باستحالة العدل بين النساء ولما كان هذا الكلام فارغاً تافهاً، فإن أصحابه يعمدون إلى تكراره كأنه رأي قيل! من قاله “أبو ظريفة”؟ “هيان بن بيان” “صلاح جاهين” كيف يهبط رجال القانون إلى هذا الدرك في الاستدلال؟ ولكنه الغزو الثقافي كشف الله غمته.
لقد تحدثنا عن هذا الموضوع في قاعة الإمام محمد عبده حديثاً مفصلاً مدعوماً بالإحصاء والمقارنة، وتأنينا طويلاً مع المعارضين حتى كشفنا شبهاتهم، وأظهرنا أنهم لا يعتمدون على شيء في نيلهم من تعاليم الإسلام المتصلة بالأسرة.
الحملات المسمومة المسعورة على تعدد الزوجات، وإباحة الطلاق، عاصفة افتعلت افتعالاً ليس في واقعنا الاجتماعي ما يدعو إليها به، القصة كلها أن بقايا الوجود الإسلامي، في عالم القانون يراد إزالتها، حتى يكون الاستعمار العالمي قد أجهز على الإسلام في أغلب مظاهر الحيوية، فيتفرغ للقضاء عليه في عالم العقيدة والعبادة، وذاك ما دعا ألوف الطلاب إلى الذهاب لمجلس الشعب لكي يطمئنوا على مستقبل دينهم، وقد لفت نظري أحد القراء إلى أن كاتبة مثالية هاجمت هذه المسيرة، وقالت: «إن بعض أبنائنا ولا أقول كلهم أسرفوا في الثقة بصدق ذلك الإنسان الذي وقف بقاعة محمد عبده، وزعم لهم أن الإسلام في خطر؛ فوقفوا وراءه مغمضي العيون، غير عالمين بما يتضمنه هذا الزعم من تضليل متعمد.. إلخ»، وقد أرضاني أن تشتمني هذه المرأة، فلو أنها مدحتني لاتهمت نفسي وديني، وذلك أنني نقلت من مجلتها كلاماً يندى له الجبين –جبين الأشراف من الناس وحدهم وقد مضت المرأة في هجومها على مسيرة الطلاب، قائلة عن هذا العمل: «إنه يحمل طابع الانقياد الأعمى لأهواء المأجورين بأموال غير مصرية، سبحان الله المدافعون عن الإسلام أخذوا فلوساً، أما المدافعون عن الخنا وانفتاح مصر لشتى الأمزجة فأيديهم طاهرة لم أكترث لهذه الوضاعة، بل ذكرت قول الشاعر:
نجا بك لؤم منجي الذباب
حمتهُ مقاذيــرهُ أن ينالا
إننا باقون في الدفاع عن ديننا مهما اشتد خلفنا النباح ولا بد لهذه النفوس المستعمرة أن تتلاشى ولا بد وإن طال الليل أن يطلع الصباح.