يرحل البشر، وربما ننسى كلماتهم، لكن أعمالهم تظل خالدة، ومن هؤلاء الصحفي البوسني صالح بركيتش (1948 – 2023)، رحل ولسان حاله يقول: «أُفضّل أن يتذكّرني الناس بما اجتهدت فيه لآخر عمري؛ لتصل الحقيقة»، وآخر ما أوصاني به أن أواصل نشر الحقيقة قائلاً: «أنت شخص استثنائي وصديقة لشعب البوسنة وكوسوفو، وما أقدّره في عملك، في المقام الأول هو الحقيقة! حقيقة معاناة شعبنا».
طوال رحلة الصحفي المخضرم صالح بركيتش، الذي ودعنا في 12 مايو الجاري، كان يهتمّ دائماً بالأشخاص البسطاء، فيبحث عمّن لم يصوّره أحد، وهذا ما جمعنا لسنوات، هذا الصحفي يسمّيه الغرب بـ«الصياد» الذي ينقّب بحثاً عن الحقيقة بلا كلل، مثلما أجملت قناة «إن بي سي الأمريكية» في تقريرها عن جهوده الصحفية أثناء الحرب على البوسنة.
يصفونه في البوسنة بـ«القلم الذي مسّ جرحًا بوسنيًا» مثلما قال عن مهنته، يذكّرني بجراح ماهر يعرف جيداً كيف يعالج مريضاً، وكان يحرص على نشر القصة كاملة.
سيرته ومسيرته
ولد بركيتش في عام 1948 في مدينة موستار بالبوسنة، ونشأ في ستولاك، كانت أسرته حريصة على تعليمه، فطوّر شغفه بالكتابة بفضل معلميه في المدرسة الثانوية، أرسل رقم هوية والدته؛ ليخفي أنه قاصر حين راسل الصحف، ثم درس الصحافة في بلجراد، بدأ الكتابة كمراسل لصحيفة «Oslobodjenje» (سلوبودينيي)، و«Sloboda» (سلوبودا) في موستار، ثم انتقل في بداية ثمانينيات القرن العشرين إلى توزلا.
تدرّج عمله الاحترافي في الصحافة والإعلام بدءاً من راديو «بانوفيتشي»، ثم في «راديو سراييفو»، ثم في «تلفزيون سراييفو»، و«تلفزيون البوسنة والهرسك»، بدأ نشر أحداث ما بعد تفكك يوغسلافيا في كرواتيا وسلوفانيا، بعدها نقل أول الاعتداءات في بيلينا وزوفورنيك، ثم نقل اعتداءات براتوناك، في سبتمبر 1991 حين اتصل بأحد الضباط على أرض الواقع، وأبلغ بتفاصيل الأهوال سريعاً، واستمر في عمله مع «راديو وتلفزيون البوسنة والهرسك الفيدرالي» حتى تقاعده، ثم واصل العمل الصحفي بطريقته، حتى آخر أيامه، وهو عضو في فريق الخبراء الدولي التابع لمعهد أبحاث الإبادة الجماعية الذي يتخذ من كندا مقراً له.
حياة لا تخلو من خطر
ولأن الصحافة مهنة البحث عن المتاعب، فقد تلقى تهديدات عبر الهاتف أن هناك رصاصة عليها اسمه، لكنه لم يأبه، وفي بداية الحرب، جابه تهديد أحد القادة العسكريين في جيش يوغسلافيا الشعبي، أنهم مثل الفئران يختبئون؛ ليقتلوا المدنيين العزل.
شيء من التكريم
حصل بركيتش على العديد من الجوائز الصحفية، منها جائزة صحفي العام في 1995، ووسام الاستحقاق للشعب، ووسام العمل، ووسام جمهورية باكستان الإسلامية، وجائزة الإنجاز مدى الحياة من الجالية الإسلامية في البوسنة والهرسك.
بينما يرى أن أفضل الجوائز حين يجري لقاء فيعرّفونه بسربرنيتسا التي أحبها وبلديات بودرينيي الأخرى ونقل معاناة أهلها؛ لكيلا تذهب طي النسيان؛ فيقول: أنا واحد من القلائل الذين يعرفون سربرنيتسا جيداً دون تأليف كتاب.
كان فخوراً بعضويته في لجنة تحكيم جائزة «نينو تشاتيتش» (Nino Ćatić) للصحفيين، التي سميت على اسم الصحفي الشاب الراحل الذي أذاع نبأ سقوط سريرنيتسا في الراديو.
توثيق الإبادة
يعد صالح بركيتش عميد الصحافة في البوسنة والهرسك، وقد اشتهر بتغطيته لحرب عام 1992-1995، ثم واصل تقاريره بعد الحرب عن معاناة البوشناق حتى أيامه الأخيرة، اهتم بالصحافة الاستقصائية والوثائقيات؛ فقدّم أكثر من 30 فيلماً وثائقياً، ترجم 10 أفلام منها إلى الإنجليزية، ومن أفلامه «12 عاماً من كفاح فاتا أورلوفيتش»، و«وصول فاتا إلى العدالة»، و«الأم خديجة»، و«نرمين»، و«لقد قتلوا أيضاً أطفالاً لم يولدوا بعد»، و«حورية أفنديتش»، و«القلب»، و«بلدي سربرنيتسا»، و«من سيُحاكَم عن عيون سيد بيكريتش؟»، و«مجزرة مدخل توزلا»، و«صبي بيد رجل عجوز»، و«مصباح يدوي في المقبرة».
قدّم نتاجه الفني لمراكز مثل مركز بوتوكاري التذكاري، وأمهات سريبرينيتسا، ولبّى دعوات المراكز في كافة أنحاء العالم المهتمة بالإبادة الجماعية لمسلمي البوسنة، بالحديث وعرض الصور والفيديوهات، وشارك في ندوات للكتب عن الإبادة الجماعية في البوسنة.
قدّم سجلاً لصور المساجد المهدّمة أثناء العدوان على البوسنة، ووثّق بالتصوير نحو 115 مقبرة جماعية، واهتم بالتعريف ومتابعة أحوال الجاليات البوسنية في المهجر، وتبرّع للمعهد البوسني في يناير 2022 بفيض من نتاج تصويره وتوثيقه المرئي قبل أن تحين ساعة الرحيل؛ ليرحل وهو راضٍ عمّا قدم، فمن يحمل الأمانة من بعده؟
كما أجرى مقابلات مع ملوك ورؤساء دول، وقدّم تقارير من دول أجنبية عديدة.
في عمله كانت له أقوال شهيرة، منها: «على الصحفي أن يمسّ الجرح بقلمه، وأن يكون حيثما تكون أكثر الصعوبات»، و«جدار الصمت ما يزال يُخفي مواقع المقابر الجماعية، والعديد من مجرمي الحرب لم تُحاكموا ولم يدانوا بعد، وآباء الضحايا والشهود يموتون»، ومن أهم عباراته أيضاً: «على تكرار مشاهدتي لها، إلا أن مشاهدة فتح المقابر الجماعية هي أصعب شيء أحمله بداخلي».
وفاته
تُوفّي بركيتش في 12 مايو 2023، وأُقيمت جنازته أمام المركز التذكاري في توزلا، الأحد 14 مايو 2023، وأمّ المصلين في جنازته مفتي توزلا د. وحيد فاضلوفيتش، ودُفِن بركيتش في مقبرة سوليتوفيتشي (Suljetovići) في توزلا.
قال عنه المفتي فاضلوفيتش: كان دائماً مع الناس، وأحبّهم، وأحب مهنته، وشعبه في البوسنة والشتات، وكان شاهداً ومحارباً من أجل الحقيقة».
_______________________________
طبيبة وكاتبة مهتمة بشؤون البلقان واللاجئين.