ما العلاقة بين الإسلام وهذا المسجد الحرام؟ ولماذا يجب على كل قادر أن يقصد هذا البيت زائراً معظماً؟
الواقع أن هناك عدة روابط تجعل لحج البيت منزلة كبيرة، وترتب عليه آثاراً جليلة، فالمسجد الحرام هو أول مسجد على ظهر الأرض بُني لعبادة الله بعد هدم الأصنام وإسقاط مكانتها، وكان بناؤه على أنقاض الوثنية البائدة دلالة على انتصار التوحيد، وارتفاع رايته.
والباني رجلان من كرام الأنبياء؛ أحدهما: رُمي في النار عقوبة له على نبذ عبادة الأصنام، وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي قال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {79} وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ) (الأنعام)، والآخر: إسماعيل الذي أسلم عنقه للذبح لمَّا قال له أبوه: أمرت بذبحك، (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات: 102).
هذان الرجلان الخالصان لله وحده، المتفانيان فيه هما اللذان نهضا ببناء المسجد -المعروف بالكعبة- ليكون مثابة للمؤمنين يصلون فيه، والتنويه بمكانة المسجد هذا أساسه أمر واضح.
ثم إن الأمة الإسلامية هي نتيجة دعوة استجيبت في أثناء هذا البناء، (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {127} رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {128} رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (البقرة).
وتلك ذكرى تستحق التكريم والإحياء، ولعل مِن شُكرِ الله إعزاز مسجدٍ اقترن بناؤه بتلك الدعوات للأخلاف الذين لم يوجدوا، مَن يدري؟ ربما كانت هدايتنا إلى الله جزءاً من بركة هذا النداء المقبول!
ثم إن الصلاة -وهي أولى العبادات العملية- مرتبطة بهذا البيت العتيق، وبديهي أن المسلم عندما يقف أو يركع أو يسجد لا يعرف إلا أنه بين يدي الله ربِّ المشارق والمغارب، وبديهي أن وجهه وحده هو المأمول في أثناء التلاوة والتسبيح والتحميد، وبديهي أن الجهات كلها متساوية في قيمتها المادية والأدبية، وليس شيء منها مقصوداً بتقديس.
ولكن الله شاء أن يوجه الأمة جمعاء إلى قبلة واحدة، ترتبط فيها مساجد القارات الخمس، بأول مسجد ظهر على الأرض، وترتبط فيها الأمة الإسلامية بأبيها الأول إبراهيم، لتعلن أنها بهذا الارتباط لا تشذ عن قواعد النبوات القديمة، وإنما الذي شذ هو الذي أشرك وأفسد من المغضوب عليهم، والضالين!
ولذلك جاء في القرآن الكريم: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {149} وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (البقرة).
لهذه الصلات التاريخية والروحية أوجب الله على الأمة الإسلامية أن ينبعث منها كل مستطيع كي يزور المسجد الحرام مرة واحدة في عمره، وجعل لهذه الزيارة تعاليم رقيقة، محورها إذكاء مشاعر اليقين، وتنمية عواطف الإخلاص لله رب العالمين.
والكلمات التي يجأر بها الحاج وهو منطلق صوب البيت تنضح بهذا المعنى العالي، إنه يقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك..» (رواه البخاري).
هذه التلبية كأنها إجابة للدعوة التي لم يضعف صداها على مر القرون، الدعوة التي أوحى الله بها لإبراهيم، (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ {26} وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج).
أجل، إن الناس يأتون ولهم عجيج بالتلبية تشارك فيه كل الكائنات التي تسبح بحمد ربها، فكأن الوجود في هذه البقاع المعزولة الموحشة قد تحوَّل بغتة إلى مظاهرات لا هتاف لها إلا الذكر والشكر والتمجيد والتحميد.
وفي الحديث: «ما من مُلبٍّ يُلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا عن يمينه وشماله» (رواه الترمذي).
وأيام الحج كلها موسم عبادة وتجرد، وإقبال على الله، ولهج بالثناء عليه، وشُغل به عن غيره، (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) (البقرة: 197).
ومناسك الحج ليست شيئاً معقداً، إنها هذا الاحتشاد الضخم في منطقة عرفة يوم التاسع من ذي الحجة إلى ما بعد غروب الشمس، ثم الطواف حول البيت العتيق.
تلك هي أركان الحج المهمة لمن نَواه، وهناك مطالب أخرى خفيفة أو مؤكدة، كتحية البيت بالطواف حوله عند القدوم إلى مكة، وكرمي الجمرات، والسعي بين الصفا والمروة.
وبعض الناس يحاول أن يجعل من مناسك الحج مراسم ثقيلة المؤنة، صعبة الأداء، وهذا خطأ، فالحج رحلة روحية ممتعة، وسياحة عاطفية كريمة، وقد شرعه الله ليكون شحنة قلبية إلى جانب الأساس العقلي للإسلام، شحنة تحيطه بإطار من الذكريات والعواطف.
ومنذ بدأ الحج في الإسلام، وموسمه الجامع ينتهز للتوجيهات العامة والقضايا الخطيرة؛ فالحجة التي تمت في السنة التاسعة من الهجرة أُعلن فيها بطلان المعاهدات التي عُقدت مع المشركين! وهي معاهدات كان الوفاء فيها من جانب واحد فقط، جانب المسلمين وحدهم.
أما المشركون الأقوياء، فطالما عبثوا بهذه العهود وخرجوا عليها! حتى تأذَّن الله في السنة التاسعة بالبراءة من الناكثين، وتوعدهم في الدنيا والآخرة بالقصاص على ما صنعوا.
وفي حجة الوداع كان الخطاب الإنساني الذي ألقاه رسول الله ﷺ في الوفود الكثيفة التي اجتمعت معه، وهو خطاب لم تعِ مسامع الوجود أرقى من مبادئه، ولا أشرف من مقاصده، وهو السجل الصادق لحقوق الإنسان وحريات الأمم.
وينبغي أن يبقى الحج ملتقى المسلمين الأكبر، ومثابتهم العظمى، وأن يبقى زمانه ومكانه الموعد المضروب لاجتماع الموحدين القادمين من المشارق والمغارب، يذكرون الله ويرجمون الشيطان.
_____________________
من كتاب «هذا ديننا».