إن مما حبا الله تعالى به هذه الأمة أن جعلها تهتم بسيرة نبيها وتقوم بتسجيل كل صغيرة وكبيرة في حياته، فرسول الله ﷺ من بين جميع الأنبياء والرسل هو من وصلتنا سيرته مفصَّلة تفصيلاً، وما نعرفه عن غيره من الأنبياء والرسل إنما هي شذرات وخطوط عامة عن حياتهم ودعوتهم وجهادهم.
وتناقلت الأمة سيرة نبيها جيلاً بعد جيل، فلم تهملها أو تُعرض عنها؛ قال زين العابدين علي بن الحسين: «كنا نُعلَّم مغازي النبي ﷺ وسراياه كما نُعلَّم السورة من القرآن»(1).
وقد يقول قائل: هؤلاء أهل البيت، وإنما يتناقلون سيرة جدهم.
لكن هذا التناقل كان عامًا من الصحابة إلى من بعدهم؛ فهم شركاء في تلك السيرة والمسيرة، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه ﷺ(2)؛ فبهم كانت النصرة، وقامت على أكتافهم الدعوة، وبجهادهم قامت الدولة؛ فعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص قال: «كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله ﷺ ويعدها علينا وسراياه ويقول: يا بني، هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها»(3).
وتعلُّم السيرة نافع للدنيا والآخرة؛ فتعرف المصاعب التي تلاقيك أثناء الدعوة أو عند إقامة الدولة، وفي ضوئها تحدد هدفك وغايتك العظمى وتسير على الدرب الذي سار عليه قبلك الأنبياء والمرسلون والدعاة والصالحون والمصلحون، وهذا الأمر كان واضحًا للسلف الأوائل؛ فعن محمد بن عبدالله قال: «سمعت عمي الزهري يقول: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا»(4).
ولم ينقطع التأليف في السير والمغازي على مر العصور والدهور، وقد تختلف زاوية التناول وطريقة العرض.
وقد أسهم علماء الحركات الإسلامية ودعاتها بنصيب في عرض السيرة وتحليلها، وكانت كتاباتهم ورؤيتهم وتحليلاتهم معينًا ومؤطرًا لرؤية الكثير من المنتسبين للحركات الإسلامية في هذا العصر.
لكن بعض منتسبي الحركات الإسلامية كانوا يستدعون نصوصًا يؤسسون عليها مواقفهم دون قراءة واعية للنص وملابساته وتنزيلاته.
تنزيل السيرة النبوية على واقعنا
علينا أن نستفيد من السيرة النبوية في كيفية مجابهة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للكافرين والمنافقين، واتخاذ الأسباب المعينة على ذلك بالقوة مرة وبالسياسة مرة.. إلخ، لكن أن ننزل السيرة حسب الأهواء والتشابه الظاهري فهذا ما لا أراه ولا أحبذه.
فليس قادة الحركات الإسلامية في مقام النبي صلى الله عليه وسلم من الوعي والفهم والإدراك مع تأييد الوحي له، وليس أتباعها في منزلة الصحابة، ولا خصومهم كفار قريش!
وعليه، فإنه يمكن أن نستفيد من جزئيات السيرة النبوية، ولا نقوم بإسقاط المراحل التي سارتها الدعوة النبوية دون إدراك لكل الأبعاد واختلاف الزمان والمكان والأشخاص والظروف.
الانتقائية في قراءة التاريخ والسيرة
لا أعفي نفسي وكثيرًا من أحبابي من هذه الانتقائية في اختيار الأحداث وعرضها؛ فمن يؤمن بأمرٍ ما فإنه يبحث ويفتش عما يؤيد وجهة نظره من الشواهد والدلائل، ويغض الطرف عن أحداث أخرى لنفس الأشخاص لا تخدم توجهه.
وأضرب مثلاً بمسألة العفو عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف أنه عفا عن قريش رغم ما كان منهم من أذى للمسلمين في النفس والمال والعرض.
هذا العفو لم يشمل بعضًا من أهل مكة الذين أهدر النبي ﷺ دمهم ومنهم نساء؛ فقد أهدر دم ابن خطل وجاريتيه اللتين كانتا تغنيان بسبِّه ﷺ وهجائه، وكذا مقيس بن صبابة.
وقد قُتل ابن خَطَل وهو متعلق بأستار الكعبة، ولم يعصم هذا الرجل لياذه بالكعبة وأستارها، وقتله أبو برزة الأسلمي(5)، وقيل: سعيد بن حُريث(6)، وقيل: الزبير(7).
ومقيس بن صُبابة أدركه الناس في السوق فقتلوه(8).
«وأما قينتا ابن خطل فقُتلت إحداهما، وهربت الأخرى، حتى استؤمن لها رسول الله ﷺ بعد، فأمنها»(9).
فلماذا لم يعفُ رسول الله ﷺ عن غالب هؤلاء ممن أهدر دمهم؟
إذن المسألة تقدر بقدرها؛ فالتسامح في مواضع، والقصاص في مواضع؛ فالسيف ليس موضوعًا دائمًا، والعفو ليس مرفوعًا دائمًا.
فتلك الانتقائية حسب التوجه تجعل الأمور في غير نصابها، وتؤكد الخلل في الرؤية، وتظهر نتيجة ذلك على أرض الواقع؛ إذ تبقى المشكلات عالقة ومعضلة ولا تُحل.
فالإسقاط الخاطئ والانتقائية من الأحداث حسب الهوى من المشكلات التي وقع فيها بعض من أبناء الحركات الإسلامية من القادة والعلماء على حد سواء.
ونتج عن ذلك وقوع الحركات في أزمات تلو أخرى أدت إلى تعقيد المشهد بدلاً من تفكيكه وحله، وتلك الأزمات لم تكن واقعة على تلك الحركات وأتباعها وحدهم، بل انجرت كذلك على المجتمعات فشربت من كأس تلك الأزمات المنبثقة عن سوء الرؤية والتوجيه.
فوضوح الرؤية، وحُسن الفهم، وسلامة العمل من الأخطاء كلها عوامل تعمل على نجاح الأمة وخروجها من أزماتها المتتابعة.
________________________
(1) الجامع لأخلاق الراوي، (2/ 195).
(2) حلية الأولياء، (1/ 305).
(3) الجامع لأخلاق الراوي، (2/ 195).
(4) السابق، نفس الجزء والصفحة.
(5) انظر: سنن أبي داود، (2/ 66)، ح(2685).
(6) انظر: السنن الكبرى للنسائي، (2/ 302)، ح(3530).
(7) انظر: المعجم الكبير للطبراني، (6/ 66)، ح(5538).
(8) انظر: السنن الكبرى للنسائي، (2/ 302)، ح(3530).
(9) سيرة ابن هشام، (2/ 411).