إنها خلق الإسلام العظيم، فبها يُحفظ الدين ويسلم من الضياع والتحريف، وبها تُؤدَّى الحقوق فلا تُؤكل، وتُصان الأعراض فلا تُنتهك، وهي خلق مهم في استقرار الأُسَر واستقامة الأفراد، وتقدُّم المجتمعات، أمر الله تعالى بها في القرآن الكريم، وامتدح أهلها، ودعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم وحث عليها؛ حيث نحتاج إليها في كل أحوالنا، في عباداتنا وأعمالنا وأقوالنا، وفي معاملاتنا، فيحتاجها الزوجان في بيتهما، ويحتاجها الطبيب مع مرضاه، والمعلم مع تلاميذه، ويحتاجها العالم في تبليغ علمه، يحتاجها التاجر في تجارته، والعامل في مصنعه، والراعي في رعيته، وكلٌّ في موضعه، فهي خلق الأنبياء والصالحين، وقد قدم لنا النبي صلى الله عليه وسلم فيها خير قدوة، حيث كان قبل وبعد بعثته الصادق الأمين.
أهمية الأمانة
ومما يدل على أهمية الأمانة وضرورتها أن الله تعالى زيَّن بها أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، فيأتي الرسول قومه فيقدم بين يدَي دعوته دليل الصدق في نبوته قائلاً: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشعراء: 107)، فيقولها نوح لقومه، ويقولها هود وصالح ولوط وشعيب، ويقولها موسى عليه السلام، فهي علامة على صدق رسالتهم، كما وصف الله بها أيضاً أفضل ملائكته، جبريل عليه السلام الذي كان أميناً على الوحي، فقال سبحانه: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {192} نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء).
مفهوم الأمانة
الأمانة ضد الخيانة، وقد يظن البعض أنها تقتصر على ردّ الودائع إلى أهلها، وهذا وإن كان من الأمانة إلا أنه بعض صورها، فمفهوم الأمانة واسع، وقد أمر الله تعالى بأدائها في كل الأحوال، فقال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58)، وامتدح عباده المؤمنين فقال: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون: 8)، قال السعدي: «وهو عام في جميع الأمانات التي هي حق لله، التي هي حق للعباد»، وذكر القرطبي أن الأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولاً وفعلاً، وأن هذا يعم معاشرة الناس، والمواعيد، وغير ذلك، وأن الأمانات مردودة إلى أربابها، الأبرار منهم والفجار.
وقد قدم لنا النبي صلى الله عليه وسلم القدوة في ذلك، فحين هاجر خلَّف علياً رضي الله عنه بمكة ليرد الأمانات إلى أصحابها من المشركين، ودعانا لحفظ الأمانة فقال: «أربعٌ إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا، صدْقُ الحديثِ، وحفْظُ الأمانةِ، وحُسْنُ الخُلقِ، وعفَّةُ مَطْعَم» (صحيح الجامع)، وجعلها من كمال الإيمان فقال: «لا إيمانَ لِمَن لا أمانةَ له، ولا دِينَ لِمن لا عهدَ له» (رواه أحمد).
التحذير من الخيانة
وكما رغب الله تعالى في حفظ الأمانات وأدائها لأهلها، فقد نهى عن الخيانة فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال: 27)، قال ابن عباس: «لا تخونوا الله بترك فرائضه، والرسول بترك سنته، وتخونوا أمانتكم» (تفسير البغوي).
ومن خطورة الخيانة استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منها فقال: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضَّجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنَّها بئست البطانة» (رواه أبو داود)، كما وصفها بصورة منفرة حتى لا نقع فيها، فقال: «آيَةُ المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا اؤتُمِن خان» (رواه البخاري)، وحذر من عاقبتها فقال: «المكر والخديعة والخيانة في النار» (صحيح الجامع)، وأمر ألا نعامل الخائن بمثل خيانته فقال: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (رواه أبو داود).
من صور الأمانة
للأمانة صور متعددة في حياة المسلم، وكل صورة منها لا تقل أهمية عن غيرها، والواجب في جميعها الحفظ والأداء، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياءُ عدَّدَها، وأشدُّ ذلك الودائعُ» (صحيح الترغيب)، فالأمانة منها ما هو متعلق بحق الله على العبد، فكل ما افترض الله على العباد فهو أمانة، ومنها ما يتعلق بحقوق العباد، من كتم أسرارهم وصيانة أعراضهم ورد ودائعهم، وحفظ أموالهم.
وتتنوع الأمانات وتختلف صورها باختلاف الحال والمقام، فالأمانة في حق العالم مثلاً تكون بتبليغ العلم وتعليمه وعدم كتمانه وتقديم القدوة الصالحة من نفسه، وقول كلمة الحق والنصح للمسلمين، والأمانة في حق الطالب تتمثل في الأمانة في الجد وتحصيل العلم بلا غش أو خداع، والأمانة من العامل تكون بإتقان عمله وصنعته والإخلاص فيه، والأمانة من الوالدين تكون بحسن رعاية الولد وتربيته التربية الصحيحة التي تجعل منه عبداً مخلصاً لله تعالى، صالحاً ونافعاً لمجتمعه.
ومنها أمانة الحياة التي وهبنا الله تعالى إياها وأنعم بها علينا، فحياتنا وأعمارنا أمانة، علينا حفظها وألا نصرفها إلا فيما يحبه الله تعالى ويرضاه، ومن حفظ هذه الأمانة الامتثال لأمر الله سبحانه في الحفاظ على الصحة والتداوي من الأمراض والأخذ بأسباب السلامة والعافية، واجتناب ما حرم الله تعالى في سبيل الحفاظ عليها مثل الانتحار وتعاطي المخدرات وشرب الخمور، وما يؤدي إلى الأذى والهلاك.
وجوارحنا أمانة؛ نحفظها باستخدامها في الطاعة والخير، قال تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 36).
والمال لدينا أمانة؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَزولُ قَدَما عَبد حتى يُسألَ عن عمره فيما أفناه، وعن عِلمه فيما فَعَل فيه، وعن ماله مِن أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه» (رواه الترمذي).
والزوجة أمانة عند زوجها؛ وليس من حفظ الأمانة أن تُظلم أو تُهان، أو تُؤذَى ولا تُصان، أو يؤكل مالها أو يضيع حقها في الميراث وغيره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتُموهنَّ بأمانة الله، واستحلَلتُم فروجَهُنَّ بكلمة الله» (رواه أبو داود).
والأسرار الزوجية أمانة؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن مِن أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يُفضِي إلى امرأته، وتُفضِي إِليه، ثم ينشر سِرَّها» (رواه مسلم).
والولد أمانة لدى والديه؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عمَّا استرعاه: أحفِظ أم ضيَّع حتَّى يسأَلَ الرَّجلَ عن أهلِ بيتِه» (رواه ابن حبان)، ومِن حفظ أمانة الولد القيام بالنفقة عليه ورعايته وتربيته على التوحيد ومكارم الأخلاق وتعليمه العلم النافع له في دينه ودنياه، وإشعاره بالحب والحنان والدفء الأسري.
والاستشارة أمانة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المستشار مُؤتمن» (رواه أبو داود)، وقال: «ومَن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرُّشد في غيره فقد خانه» (رواه أبو داود).
وأموال الناس ودماؤهم وأعراضهم أمانة؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والمسلمُ من سلم الناسُ من لسانه ويده، والمؤمن مَن أمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم» (رواه أحمد)، ومن الأمانة على الأموال قضاء الديون عند حلول وقتها وعدم إنكارها، وأداء المستأجر أجرة البيت لمالكه في وقته، ودفع المشتري ثمن ما اشتراه من بضاعة دون تهرب ومماطلة.
وأسرار الناس أمانة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حدَّثَ الرجلُ بالحديث ثم التفتَ، فهي أمانة» (رواه أبو داود)، فإن التفاته قلقاً خشية أن يسمعه أحد غيرهما يؤكد أن حديثه هذا سر.
وتُطلب الأمانة في طلب العلم ونقله، وفي الشهادة، وفي البيع والشراء، وفي الحكم والقضاء، وفي الوصية، وتقسيم الميراث، وفي الدَّيْن، والوديعة، وكل ذلك من الأمانات التي سيسألنا الله عنها يوم القيامة.
فاحفظ أمانتك أيها المسلم، واعلم أن دينك؛ دين الإسلام العظيم، هو أكبر وأعظم أمانة قد أمِرتَ بحفظها في نفسك، وذلك بالعمل بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والثبات عليه، والاعتزاز به، والدعوة إليه، وأن تحمل همه وتنافح عنه وتتخلق بأخلاقه لتقدم الصورة الحقيقية له قولاً وفعلاً، وحينها تكون قد أدَّيتَ أمانتك.