يحتاج التأثير الدعوي إلى بصيرة تسهم في إدراك الواقع وفهم الواجب تجاهه، من أجل الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية، وإن الدعوة الإسلامية تتطلع إلى تكوين هذه البصيرة في الدعاة، حتى يدركوا ما تنطوي عليه نفوس الناس، وما يجب لهم من مهارات وأدوات تستطيع أن تقودهم إلى الصراط المستقيم.
وتأتي هذه السلسلة من المقالات الدعوية تحت عنوان «الأسس النفسية للتأثير الدعوي» من أجل الوقوف على الركائز النفسية التي يستند إليها الداعية ليحقق النجاح في مهمته السامية، ويأتي الأساس السادس بعنوان «الصمود النفسي».
نقصد بـ«الصمود النفسي» الثبات والاتزان والقدرة على المواجهة الإيجابية للضغوط المتنوعة، أما صمود الداعية فإنه يعني ثباته أمام تحديات الدعوة وقدرته على تجاوز صعوباتها.
التأصيل الشرعي:
لقد دعا الإسلام إلى الصمود النفسي من خلال الأمر بالصبر والثبات والتحمل والمجاهدة، حيث قال تعالى: ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا﴾ (الأعراف: 128)، وقال أيضاً: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ﴾ (يونس: 109)، وقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69)، ففي الآيات دعوة إلى الصبر والتحمل والمجاهدة من أجل تحقيق الصمود النفسي والثبات أمام الصعوبات، وهذه الصعوبات لا تقتصر على المصائب والابتلاءات، بل تشمل العطايا والهبات، فيجب الصمود تجاهها وعدم الاغترار بها، حيث قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ (الأنبياء: 35)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له»(1)، فالمؤمن صامد أمام النعم والنقم، والغُنْم والغُرْم، لا تغره العطية ولا تقصمه البليّة، ولا ينظر إلى الحالة الآنيّة، بل يرى النتيجة النهائية، ينظر إلى الشوكة ويرى الوردة، وينظر إلى الليل ويرى الفجر.
التوظيف النفسي:
يسهم الصمود في تقوية النفس ودعمها، ويصل بها إلى التأثير في الآخرين، حيث أكّدت الدراسات النفسية أن كل حرف من كلمة الصمود يدعم نتيجته، ففي الصاد: صلابة، وهي تعني مقاومة المحن، وفي الميم: مرونة، وهي تعني القدرة على إيجاد البدائل وتعديل المسار، وفي الواو: وقاية من الأخطار، وفي الدال: دافعية، وهي تعني المثابرة والانطلاق نحو الأفضل، فالحروف المكوِّنة لكلمة الصمود تُشَكِّل معناه كما شكَّلت مبناه.
المسلم إذا استجاب لربه واستند إلى ركنه الشديد أيقن أن الباطل ضعيف زائل والحق قوي فاعل
كما أن الصمود النفسي يسهم في القدرة على التوافق والتأثير الفعال، والتماسك والثبات أمام التحديات، مع الشعور بحالة من الاستبشار والتفاؤل والاطمئنان(2)، فإذا حدث ذلك فإن الشخص الصامد يتحرك بإيجابية، ويندفع في اتجاه الظاهرة الإبداعية، التي تتجاوز الصعوبات الحالية، وتترقب الإشراقات المستقبلية.
وإن ضَعْف الصمود أو فَقْده يؤدي إلى الأمراض النفسية، والعجز عن مسايرة الحياة الاجتماعية والتطلعات المستقبلية.
التوظيف الدعوي:
إذا أدرك الداعية أن الصمود أساس للتأثير النفسي؛ فإنه يسعى إلى اكتسابه والتحلي به، ثم توظيفه في عمله الدعوي، وذلك من خلال أمور، منها:
أولاً: الاستجابة لله ورسوله؛ فهي تغذي قلب المؤمن بالثبات، حيث قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ (النساء: 66).
ثانياً: التزود الدائم من القرآن الكريم؛ فهو أعظم وسائل الثبات والصمود، حيث قال عز وجل: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ (الفرقان: 32)، وفي القرآن الكريم من أنباء الرسل ما يدعم الصمود ويقويه، حيث قال سبحانه: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ (هود: 120).
ثالثاً: اليقين بأن الباطل ضعيف ومهزوم، وأن الحق قويٌّ ومنصور؛ فإن هذا مما يُهَوِّن شأن الباطل، ويفتح باب الأمل أمام الداعية الصامد، حيث قال تعالى: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ (النساء: 76)، وقال عز وجل: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ (الأنبياء: 18).
رابعاً: دوام الدعاء والاستعانة بالله تعالى؛ فالله يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ولا يرد استغاثة من ناداه، قال تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ (الأنفال: 9)، وعندما استعانت امرأة العزيز بالنسوة على سيدنا يوسف استعان عليهم بالله سبحانه فاستجاب له، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ﴾ (يوسف: 33-34)، وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»(3).
فإذا استجاب المسلم لربه وداوم على دعائه وتزود من كتابه واستند إلى ركنه الشديد وأيقن أن الباطل ضعيف زائل والحق قوي فاعل، فإنه يمتلئ صموداً نفسياً وعزماً قوياً وسعياً دعوياً وتأثيراً جماهيرياً.
ذلك أن الإسلام يربي أتباعه على الصمود في كافة جوانب الحياة، فهو يدعو إلى التفكير والاقتناع من أجل صلابة العقيدة، ويدعو إلى الخشوع والخضوع من أجل صلابة العبادة، ويدعو إلى السلام والالتزام من أجل صلابة الأخلاق، كما يدعو إلى الصمود أمام النفس وهواها، فلا اغترار بالطاعة ولا قنوط بالمعصية.
إنها الدعوة إلى الصمود والثبات، ومجاهدة الشهوات، ومواجهة الشبهات، وترك المنكرات، وفعل الخيرات.
الدليل على التأثير الناجح:
تعددت الأمثلة التي تدل على أن الصمود النفسي يسهم في التأثير الدعوي، ومنها: ما كان من أمر سحرة فرعون، الذين حشدوا ما لديهم من طاقة، وألقوا ما بأيديهم من سحر وحماقة، حتى خاف الناس من الخيالات العملاقة، وهربوا خشية القتل أو الإعاقة، حتى جاءتهم الإفاقة، حيث أمر الله تعالى موسى بإلقاء العصا في الساحة العملاقة، وقال له: ﴿لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى* فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴾ (طه: 68-70)، فقد كشفت الآيات عن مدى الخوف الذي أصاب سيدنا موسى عليه السلام حين فعل السحرة ما فعلوا، لكن الله تعالى عالج خوفه حين ذكّره بعلو قدره وشرف رسالته، ثم زاده ثباتاً بقوله: ﴿لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ (طه: 46)، فلما تذكر سيدنا موسى أنه الأعلى بسبب إيمانه واستناده إلى ربه واستشعار معيته، زاد الصمود لديه، واستجاب القوم إليه، وهكذا يستمد الداعية من إيمانه ما يعالج خوفه ويدعم صموده، حيث قال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139).
الصمود يبعث في النفس القدرة على مواجهة التحديات وتجاوز العقبات ونصرة المبادئ وتحقيق الغايات
والقارئ لقصة غلام أصحاب الأخدود(4)، يجد أن ثبات الغلام على موقفه الديني وصموده في مواجهة الظالمين وأعوانهم قد أدى إلى إيمان القوم به، وعدم خشيتهم من إعلان ذلك، حتى صاحوا قائلين: آمنا برب الغلام.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب المثل في الصمود النفسي بما يدعم التأثير الدعوي، فعندما ذهب المشركون إلى عمه أبي طالب، وطلبوا منه أن يمنع الرسول من الدعوة إلى الله تعالى، وقف الرسول صلى الله عليه وسلم صامداً معتزاً بدعوته، يقول: «يَا عَمُّ، وَاَللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشمسَ فِي يَمِينِي، والقمرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظهره اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ»، ثُمَّ قَامَ؛ فَلَمَّا وَلَّى ناداه أبو طالب، فقال: يا ابن أَخِي؛ اذهبْ فقلْ مَا أحببتَ، فَوَاَللَّهِ لَا أسْلمك لشيء أبدًا(5)، وعندما كادت الهزيمة أن تقع بالمسلمين في غزوة «حنين»، وهرب عدد من أفراد الجيش، تقدم النبي صلى الله عليه وسلم معلناً ثباته وصموده، قائلاً: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب»(6)، فما أن سمع الصحابة النداء، ورأوا الموقف الوضّاء حتى أقبلوا بعد فرار، وانتصروا بعد هزيمة.
والخلاصة؛ أن الصمود يبعث في النفس القدرة على مواجهة التحديات وتجاوز العقبات ونصرة المبادئ وتحقيق الغايات.
____________________________________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، (4/ 2295 رقم 2999).
(2) الصمود النفسي من وجهة نظر علم النفس الإيجابي: د. ريم سليمون، ص 95.
(3) أخرجه الترمذي في السنن، (4/ 19 رقم 2140).
(4) صحيح مسلم، (4/ 2299 رقم 3005).
(5) السيرة النبوية: لابن هشام، (1/ 240).
(6) صحيح البخاري، (3/ 1052 رقم 2709).