امتلاك العقول وبناء الهوية الوطنية أهم ما قدمه الفلسطيني وتمسك به على مدار 75 عامًا، هي أعوام «النكبة»، بل قاوم كافة أشكال محاولات طمس الهوية الوطنية، ومحاولات التجهيل التي اتبعها الاحتلال، لكنه فشل في ذلك فشلًا ذريعًا، بل إن الفلسطيني ازداد تمسكًا بهويته، وامتلك فنًا خاصًا في إيصال روايته للعالم، بالريشة والقلم والتمثيل، وصناعة الأفلام، وصولًا للمشاركة في أشهر مهرجانات الفن الدولية، كما الحال في مهرجان «كان» السينمائي، وكان آخرها فوز المخرجة الفلسطينية مها الحاج بجائزة أفضل سيناريو عن فيلم «نظرة ما».
سلاح السينما
على مدار سنوات اللجوء الفلسطيني، شهدت الساحة الفنية تطوراً مستمراً يجاري التطورات في هذا المجال، على الرغم من ضعف الإمكانات، وصعوبة العمل، نظرًا للعمل في مناطق اللجوء التي تخضع لنظام الدول التي لا توفر الحرية للعمل الفني، ومن أهم الفنون إنتاج الأفلام الفلسطينية التي تتناول القضية الفلسطينية، وتسجيل وقائع الحالة الفلسطينية، لنقلها للعالم الخارجي، ولم تكن السينما الفلسطينية مجرد رقم عابر، بل منافس دولي يسير فيه الممثلون والمخرجون على السجادة الحمراء.
مسلسل «التغريبة الفلسطينية» مثّل نقلة نوعية في سرد وقائع النكبة بتفاصيلها وإحيائها في عقول الجيل الجديد
بعد أن شهدت ثمانينيات القرن الماضي أعمالًا فلسطينية تركز على الأفلام التي تحاكي الواقع الفلسطيني عبر أفلام خاصة تركز على النكبة واللجوء، وحلم الفلسطيني بالعودة، ظهر مسلسل «التغريبة الفلسطينية»، الذي مثل نقلة نوعية في سرد وقائع النكبة بتفاصيلها، وإحيائها في عقول الجيل الجديد، لتسقط مقولة جولدا مائير، رئيسة وزراء الاحتلال الراحلة، التي قالت يومًا: «إن الكبار سيموتون والصغار سينسون».
امتلك الفلسطيني الصاروخ لمقاومة الاحتلال، وبنفس الجرأة امتلك وطور سلاح السينما في وجه الاحتلال، في طرح القضية الفلسطينية في مسارح السينما الدولية، ونافس على شاشات العرض السينمائية، ووقف خلفها مجموعة من المخرجين الفلسطينيين، المعروفين دوليًا، ويتواجدون في لجان تحكيم المهرجانات، منهم ميشيل خليفي («عرس الجليل» عام 1987، و«نشيد الحجر» عام 1991، و«حكاية الجواهر الثلاثة» عام 1995)، ورشيد مشهراوي الذي لا يزال يعمل ويُقدّم أفلاماً وثائقية وروائية («حتّى إشعار آخر» عام 1994، و«حيفا» عام 1996، و«تذكرة إلى القدس» عام 2002، و«انتظار» عام 2005، و«عرفات أخي» عام 2005، و«فلسطين ستيريو» عام 2013)، ومحمد بكري («جنين جنين» عام 2002).
في الإطار نفسه، لا يُنسى «الجنّة الآن» (2005)، الفيلم المهمّ لهاني أبو أسعد، والفيلم البديع «ملح هذا البحر» (2008) لآن ماري جاسر، و«عمر» (2013) لأبي أسعد أيضاً، وغيرها من أفلامٍ، أثبتت أنّ السينما الفلسطينية تمتلك رؤية فنية وأسلوبية تجعلها تنافس سينمات العالم بجدارة.
وآخر المحطات ترشيح فيلم «اصطياد أشباح» للمخرج رائد أنضوني لـ«الأوسكار»، وفيه يبحث المخرج عما تبقى داخل نفوس الأسرى السياسيين الفلسطينيين وذاكرتهم العميقة، إذ طلب من أسرى سابقين إعادة بناء السجن والقيام ببعض الأدوار.
من الأفلام الشابة التي وصلت أيضاً إلى بعض المهرجانات العالمية فيلم «فراولة» لعايدة قعدان من حيفا، الذي يتحدث عن بائع في رام الله لم ير البحر في حياته، وفاز الفيلم بجائزة مهرجان «Palest’In & Out» في فرنسا.
تعزيز الرواية الفلسطينية
وعلى الرغم من النجاح الذي حققه، خلال العقدين الأخيرين، برز الفن المقاوم في تعزيز الرواية الفلسطينية عبر المسرح والأفلام القصيرة التي ركزت غالبيتها على الانتقال من تفاصيل النكبة والواقع المعيشي والآثار المترتبة على اللجوء إلى التركيز على الحق في العودة، ومقاومة الاحتلال، وصولًا لظهور الأفلام القصيرة عبر الهاتف التي تحولت لكابوس على الاحتلال، أبدع فيها الفلسطيني في طرح قضاياه بالتركيز على المقاومة والمقاومين وحياتهم النضالية والجهادية، مع حضور الجانب الإنساني للشهيد والأسير والجريح؛ مما حاز على نسبة مشاهدة واهتمام دولي، مكن بعض الأفلام من المشاركة في مهرجان «كان» السينمائي، والمشاركة في مهرجانات دولية، وصلت في العام 2002م لإجبار مهرجان «كان» السينمائي الدولي على إضافة فلسطين ضمن الدول المشاركة.
السينما الفلسطينية أنتجت مجموعة من الأفلام التي تقدم الرواية الفلسطينية بروح المقاومة
الأفلام والمسلسلات التي تبرز خلال شهر رمضان وتحوز على نسبة مشاهدة مرتفعة فلسطينيًا، وانتقال بعضها عربيًا وإسلامياً، عبر ترجمته لدول وشعوب صديقة، تستهدف الجيل الجديد من الفلسطينيين، الذين راهنت مائير على نسيانهم، لتجدهم اليوم هم من يدوسون على رؤوس جيشهم الذي لا يقهر في مواقعهم العسكرية، وهم من يفجرون دبابتهم في غزة وجنين، وأصبح هذا الجيل يمتلك وعيًا وإيمانًا بعدالة مقاومته، وصدق انتمائه، عززه الفن المقاوم، ويحفظ أشعار محمود درويش، وروايات غسان كنفاني، ولم يكتف بما شاهده في «رجال في الشمس»، ولا البطل أبو صالح في «التغريبة الفلسطينية»، بل هو من يقاوم ويصور ويترجم من شاهده في الأفلام والمسلسلات، وما رسمه ناجي العلي وترجمه لواقع وحقيقة.
وأنتجت السينما الفلسطينية مجموعة من الأفلام التي تحاكي الواقع الفلسطيني خلال انتفاضة الأقصى، وتقدم الرواية الفلسطينية بروح المقاومة، كما الحال مع مسلسل «الفدائي»، و«سجن جلبوع» الذي تمكن فيه 6 من قادة المقاومة الأسرى في سجون الاحتلال الهروب منه، ومسلسل «بوابة السماء» الذي يحاكي وقائع حرب عام 2014، وحرب عام 2021.
وفي الواقع تعاني السينما الفلسطينية من مشكلات مركبة لها علاقة بالاحتلال، الذي يستهدف دور السينما، كما حدث في اجتياح جنين الأخير، في يونيو الماضي، وغياب التمويل، وعدم وجود بنية تحتية لذلك، على الرغم من أن فلسطين شهدت منذ 100 عام بناء دور للسينما في كافة المدن الفلسطينية، وسيطر الاحتلال على غالبيتها، وصادر معداتها على مدار احتلاله، واعتقال المخرجين والممثلين، ولا يزال يطاردهم، بمن فيهم المخرجون في الداخل المحتل عام 1948.
الفن المقاوم عبر الروايات والقصص والأشعار يتصدره اليوم الأسرى في سجون الاحتلال الذين حولوا السجون لورشة ومكتبة وسباق لإنتاج القصص البطولية التي كانوا جزءاً مهماً منها، يدمجون فيها بين تجاربهم الجهادية، والمقاومة، ورسائل الحب والعشق لزوجاتهم وأبنائهم، ويسردون يوميات أسرهم، وسنوات غيابهم، التي تمتد لبعضهم لما يتجاوز 30 عاماً، وتحويل بعضها إلى أفلام ومسلسلات، كما الحال مع أسرى جلبوع الذين نجحوا في الهروب من سجون الاحتلال في مشهد أسطوري، لقنوا العدو فيه درسًا لا ينساه، ويسردون حكاية شعب مقاوم يحيي الحياة ما استطاع لذلك سبيلاً، ليفتك في عدوه بما يملك من سلاح ورشاش وكاميرا ومسلسل وفيلم يحاكي ويجاري واقعًا أسطورياً صنعه الدم والنار والبارود وصبر على سنوات النكبة والنكسة والألم.