منذ ثمانينيات القرن العشرين بدأ العالم في إدراك ما يحيق بمستقبل الأجيال القادمة من خطر محدق في ظل تسارع وتيرة التنمية غير المسؤولة التي عاثت في الأرض فساداً لعقود طويلة دون مساءلة أو حساب لتكاليف تلك التنمية من الناحية البيئية بالأساس، فقد تفجرت الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر بأحلام عريضة عن استغلال الموارد الطبيعية وتحقيق التقدم الاقتصادي والربح الرأسمالي، وعلى خلفية تلك الثورة الصناعية أحرز الإنسان –الغربي بالأساس– إنجازات ضخمة في مجال الاكتشافات العلمية والاختراعات الحديثة التي سهلت حياة البشر وقدمت لهم الرفاهية والرخاء والمنتجات ودفعتهم للدخول في سباق محموم نحو مزيد من الاستهلاك غير المحدود.
هذا التصنيع قام على مبدأ تحقيق الفوائض الإنتاجية التي ابتغت مزيداً من المستهلكين لتحقيق الأرباح، وهو ما جعل الشركات ومن ورائها الدول في سعي دائم نحو الموارد الطبيعية والمواد الخام اللازمة للتصنيع، حتى ولو على حساب الغزو والاحتلال العسكري للشعوب، وإثارة الخلافات والصراعات العسكرية لبيع مزيد من الأسلحة، واستغلال الأطفال في الدول النامية والفقيرة في عمليات التصنيع وغيرها من الإستراتيجيات الخالية من القيمة أو المسؤولية الأخلاقية تجاه الحاضر أو المستقبل؛ وهو ما نتج عنه على المدى الطويل مشكلات بشأن التلوث، وتكريس عدم المساواة، والفقر، ونشر الأمراض، وزيادة الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة، وأسهمت في تبديد الموارد الطبيعية ونضوب كثير منها وانقراض أعداد ضخمة من الأنواع الحية.
وبغض الطرف عن الاعتبارات الأخلاقية المحضة للتنمية غير المستدامة تلك، فإن الدول الصناعية الكبرى بمرور الوقت قد انتبهت للتكلفة البيئية الباهظة التي على الأجيال القادمة دفعها جراء السياسات الاقتصادية غير الرشيدة التي ارتكبت ولا تزال ترتكب باسم التنمية، ومن ثم بدأت الدعاوى انطلاقاً من الأمم المتحدة نحو تنمية جديدة بديلة عن تلك التنمية المدمرة، وهو ما أطلق عليه «التنمية المستدامة»؛ أي التي تضمن استدامة الموارد عوضاً عن تدميرها وإتلافها وإنضابها.
وفي عام 2015م، وضعت الأمم المتحدة الأهداف السبعة عشر لتحقيق التنمية المستدامة التي يُرتجى تحققها قبيل العام 2030م في سائر أنحاء العالم، وهي الأهداف التي ابتغت معالجة الآثار الضارة الناتجة عن عمليات التنمية، مثل تغير المناخ وتدمير البيئة، وانتشار الفقر والجوع والمرض وغيرها، وما نهتم به هنا هو الهدف الرابع بالأساس لتلك الخطة الأممية للتنمية المستدامة؛ ألا وهو «التعليم».
لماذا التعليم؟
لتحقيق تنمية مستدامة حقيقية يجدر ضمان زرع الأفكار والمبادئ والطرائق التي تُفضي إلى تغيير عقلية الأجيال الناشئة بشأن التعامل مع البيئة، وهذا التغيير غير ممكن التحقق دون عملية تعليمية مستمرة وشاملة تعمل على تعزيز وصقل العقلية التي تحترم البيئة، وتبحث عن الحلول التي تضمن بقاء الموارد والأنواع وتجددها، وتبتعد بالتنمية عن التبديد والتدمير اللذين طبعاها لقرنين من الزمان.
ويُسهم التعليم في عملية التنمية المُستدامة من طرائق وجوانب متعددة جعلته الهدف الرابع من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المُستدامة، ومن أهم الجوانب التي يخدم بها التعليم التنمية المستدامة ما يقدمه التعليم من خلال مناهجه الصديقة للبيئة للمتعلمين من توعية دقيقة ومفصلة للموارد البيئية من حولهم، وكيفية التفاعل مع تلك البيئة باحترام وتبجيل لحماية حقوق الأجيال القادمة من الهدر والضياع باستخدامات غير مسؤولة لتلك الموارد والحفاظ على ما تبقى منها والعمل على تنميته.
ويقدم التعليم البيئي المتخصص مناهج قوية لحل المشكلات البيئية المتنوعة التي تواجه المتعلم في تفاعله مع البيئة، كإعادة تدوير الأشياء، وتنقية المياه، والحد من السلوكيات التي تلوث البيئة، وإبداع حلول مبتكرة للمشكلات البيئية الملحة كندرة المياه والجفاف والتصحر وغيرها، حيث تشير إحصاءات الأمم المتحدة بشأن التقييم الدولي للطلاب، بأن الطلاب الذين حصلوا على قدر معتبر من المناهج البيئية خلال المراحل التعليمية المختلفة، تمكنوا من تقديم إجابات صحيحة بخصوص العلوم البيئية أكثر من هؤلاء الذين لم يحصلوا على أي قدر من التعليم البيئي؛ وهو ما جعل التوعية البيئية أمراً لا مفر منه لأي دولة تبتغي تحقيق تنمية مستدامة في عالم يعج بالمشكلات البيئية التي تتهدده.
ومن ناحية أخرى، تشير تقارير الأمم المتحدة بأن التعليم يُقلص من أخطار الكوارث البيئية في سائر أنحاء العالم، فحصول المواطنين في أي دولة على قدر من التعليم بشكل عام، والتعليم البيئي بشكل خاص، والتوعية بالكوارث البيئية؛ يُعظّم من فرص إنقاذ هؤلاء المواطنين من الوقوع ضحايا للكوارث البيئية التي أصبحت تنتشر في عالمنا اليوم؛ كالجفاف والجوع وحرائق الغابات؛ إذ يسهم القدر العالي من التعليم في فهم الأجيال الناشئة بشكل أفضل للتعاطي مع المشكلات البيئية والكوارث الطبيعية الناتجة عن التلوث البيئي وقراءة التحذيرات والإرشادات الخاصة بالتعامل مع تلك الكوارث حال وقوعها.
ويدعم إتاحة الفرص التعليمية المتساوية للجميع دون تمييز بين الفقراء والأغنياء تقديم التوعية البيئية اللازمة لسائر طبقات المجتمع، ومن ثم تعظيم الآثار الإيجابية نحو سلوكيات أفضل إزاء المشكلات البيئية، ونشر السلوك المستدام بين فئات المجتمع على تفاوتها، مثل ركوب الدراجات والمركبات الصديقة للبيئة، وترشيد استهلاك الكهرباء والمياه.
مجالات التعليم المستهدفة
إن تحقق أهداف التنمية المُستدامة عبر التعليم تفرض على سائر الدول تبني سياسات تعليمية أكثر انفتاحاً وإبداعاً بشأن المشكلات البيئية التي باتت أكثر تعقيداً وأعمق آثراً يوماً بعد يوم، وذلك لتنمية التفكير الإبداعي والعقلية النقدية لدى الأجيال الناشئة، وإنفاق مزيد من الاستثمار على البحث العلمي كسبيل ناجع ومحوري في حل الكوارث البيئية، وتوظيف التطور العلمي والتكنولوجي بالشكل الأمثل لوقف تدمير البيئة والحيلولة دون تلوثها.
وتتمثل المجالات التعليمية المُستهدفة من أجل خلق تنمية مستدامة بالأساس في التعليم النظامي بالمدارس والجامعات، وتخصيص مساحة أكبر من المناهج والموازنات من أجل الموضوعات البيئية وطرائق التفاعل معها وحلها، إذ تشير الأمم المتحدة بأن دعم التعليم أكثر فاعلية في حل المشكلات البيئية من الاستثمار في البنى التحتية والمشروعات الاقتصادية، فالتنمية المستدامة من خلال التعليم تولي الأهمية الأكبر للبشر والاستثمار فيهم وفي عقولهم لإنقاذ الكوكب مما لحق به من دمار وإفساد.
ويشغل التعليم المحلي القائم على التوعية الذاتية عبر منظمات المجتمع المدني والعمل الأهلي والمساجد والكنائس والمبادرات الحكومية في كل دولة مساحة مهمة في القيام بدور تعليمي وتوعوي يحد من التعدي على البيئة ويقوض الممارسات المدمرة لها.
من هنا، فإن التعليم من حيث هو تنمية للإبداع وتحفيز للعقلية النقدية هو حجر الأساس في تحقيق أي تنمية مُستدامة من جانب الدول في الوقت الراهن، وهو السبيل الوحيد لإنقاذ الأجيال القادمة من الجوع والفقر والمرض الناجمين عن مشكلات تلوث البيئة ونضوب مواردها.