لم تكن عملية «طوفان الأقصى» دليلاً على هشاشة الاحتلال الصهيوني فقط، وإنما كانت أيضاً كاشفة لكذبة حياد الإعلام الغربي ومهنيته، بل أظهرت وجهه القبيح؛ المضلل والمحرض، والمنحاز للجاني على حساب الضحية.
على مدار 10 أيام، شارك الإعلام الغربي، صحفاً وفضائيات، في نشر الكثير من الأخبار الكاذبة المتعلقة بغزة وحركة «حماس»، التي كان أشهرها كذبة أن عناصر «كتائب القسام» ذبحوا أطفالاً رضعاً خلال الهجوم على مستوطنات غلاف غزة، في 7 أكتوبر 2023م.
الكذبة الفجة رددها الرئيس الأمريكي جو بايدن بنفسه متحدثاً عن الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ الذين قتلتهم «حماس» في مستوطنة كفار عزة، قبل أن تتراجع الإدارة الأمريكية على استحياء عنها، وتقول: إنها لم تتأكد من صحة المعلومة.
الكذبة بدأت من الفضائية «I24» العبرية عندما نقلت مراسلتها نيكول زيديك عن جنود ومسؤولين الاحتلال أنّهم عثروا على جثث لأربعين رضيعاً برؤوس مقطوعة في مستوطنة كفار عزة، التي دخلها أفراد «القسام»، ومن هنا انطلقت الصحف الغربية لتنقل تلك الرواية دون العمل على التأكد من صحتها، فنقلت مراسلة صحيفة «الإندبندنت» البريطانية بيل ترو الرواية الصهيونية، وعنونت تقرير لها بـ«كفار عزة تفوح منها رائحة الموت»، وقالت فيه: إنه «داخل القرية الحدودية الإسرائيلية، حيث ذبح الأطفال في هجوم حماس..».
ونقلت الصحيفة البريطانية عن رائد في الجيش الصهيوني يدعى ديفيد بن تسهيون قوله: «عندما جاءت حماس إلى هنا قطعوا رؤوس النساء، وقطعوا رؤوس الأطفال، لقد رأينا أطفالاً وفتيات موتى».
وكذلك فعلت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية التي وضعت على غلافها عنواناً يقول: «أطفال بُترت رؤوسهم: 40 طفلاً قتلوا رمياً بالرصاص»، وأيضاً فعلت صحيفة «ذا تايمز» البريطانية، فكتبت على صفحتها الأولى: «حماس تذبح حناجر الرضع»، ومثلها فعلت قناة وموقع «سي إن إن» الأمريكية التي روجت للأمر نفسه، وأكدت عن لسان مراسلتها سارة سيدنر العثور على جثث لأطفال مذبوحة في مستوطنة كفار عزة.
ربما كانت هذه هي الكذبة الأكبر التي روجها الإعلام الغربي عن عملية «طوفان الأقصى»، لكنها ليست الكذبة الوحيدة، فهناك الكثير من الشائعات التي امتلأت بها الصحف والفضائيات الغربية خلال الأيام الماضية، منها ما يتعلق بتصرفات جنود «القسام» في المستوطنات التي دخلوها في السابع من أكتوبر.
على سبيل المثال، نقلت «لوس أنجلوس تايمز»، الصحيفة الأكثر انتشاراً في الولايات المتحدة الأمريكية، في تقرير لها، أن جنود «القسام» اغتصبوا النساء، وشقوا بطون الحوامل من نساء المستوطنات، وقتلوا الشيوخ والعجائز، وكذلك نقلت فضائية «سي إن إن» عن الجيش الصهيوني قوله: إن «مسلحي حماس نفذوا مذبحة في كفار عزة، حيث تم ذبح النساء والأطفال الصغار وكبار السن بوحشية على طريقة عمل داعش».
لم يتوقف التضليل في الإعلام الغربي إلى هذا الحد، بل واصل انهياره المهني والأخلاقي بنشر صور لضحايا من أطفال غزة بدعوى أنهم أطفال «إسرائيليون»، وكذلك مشاهد للتدمير في القطاع على أساس أنها لمشاهد من المستوطنات الصهيونية في غلاف غزة، بالإضافة إلى الترويج لأكاذيب المسؤولين «الإسرائيليين» التي اتضح كذبها أيضاً.
ولم تكن الأزمة في تضليل المراسلين فقط، وإنما في مقدمي البرامج والنشرات على أشهر الفضائيات الغربية الذين أعلنوا بشكل فج انحيازهم للطرف الصهيوني على حساب الجانب «الإسرائيلي»، وضح ذلك في اختيار صياغة الأخبار ونوعية الضيوف التي حرصوا على استضافتها في برامجهم خلال الأيام الماضية.
فعند الحديث عن قصف غزة يؤكدون الرواية «الإسرائيلية» بأن القصف يستهدف المسلحين من حركة «حماس»، مركزين الحديث عن الأسرى «الإسرائيليين» لدى «حماس» ووصفهم بـ«الرهائن» بدلاً من «الأسرى».
وقد استضافت فضائية «بي بي سي» أخت أسيرة وأبدت المذيعة تعاطفاً معها وقالت لها: «أنا آسفة حقاً لأجلك»، لكن الأمر لم يحدث عندما استضافت المذيعة نفسها مسؤولاً بمنظمة الصحة العالمية تحدث عن الوضع الصحي في قطاع غزة، فلم تبد المذيعة أي تعاطف مع حديثه.
الفضائية نفسها تستخدم في نشراتها صياغة خبرية تدل على انحيازها الفج لـ«إسرائيل»، فعندما تتحدث عن «الإسرائيليين» فتقول: إنهم «يتعرضون للقتل»، لكن عندما تتحدث عن الفلسطينيين فتستخدم لفظ «موت» أو «وفاة»، وهي الفضائية نفسها أيضاً التي تستضيف محللين غربيين يرددون نفس الرواية «الإسرائيلية» بأن «حماس تضحي بالمدنيين من أهالي غزة»، و«ترتكب جرائم حرب ضد إسرائيل»، وبذلك يتضح تخلي الفضائية الرصينة عن أحد أهم مبادئها وهو الحياد.
الأمر نفسه حدث في فضائية «فوكس نيوز» الأمريكية التي استضافت ضيوفاً ينتقدون ما اعتبروه تبني خطاب أقل تعاطفاً مع «إسرائيل» من جانب بعض وكالات الأنباء العالمية.
وبدلاً من محاسبة المذيعين والمراسلين الذين روجوا هذه الأكاذيب، وأعلنوا انحيازهم لطرف ضد آخر، حدث العكس تماماً؛ إذ تم معاقبة وفصل من أبدى أي تعاطف مع الضحايا الفلسطينيين، حيث أوقفت صحيفة «الجارديان» نشر أعمال رسام الكاريكاتير ستيف بيل الذي يعمل لديها منذ نحو 40 سنة، بعد نشره رسماً يصور فيه نتنياهو يقطع من جسده قطعة على شكل خريطة لغزة، وهو إعادة لكاريكاتير قديم لرئيس أمريكي يقطع قطعة من جسده على شكل خريطة فيتنام، ورأت إدارة الصحيفة أن الرسم معادٍ للسامية، ولم تكتف بالاعتذار عن الكاريكاتير وتوبيخ الرسام، بل أنهت عقده بنهاية العام، وأعلنت أنها ستمتنع عن نشر أي رسومات له حتى انتهاء فترة التعاقد.
وكذلك قامت صحيفتا «ذا تليجراف»، و«ديلي ميل» البريطانيتان بمراجعة حسابات صحفيين عرب يعملون في مؤسسة «بي بي سي»، وحرضت عليهم بدعوى أنهم يؤيدون قتل «الإسرائيليين»، ويصفون حركة «حماس» بأنها حركة تحررية وليس إرهابية، وعليه تحركت «بي بي سي» بالفعل وأوقفت 6 من الصحفيين العاملين لديها من مصر ولبنان عن العمل وأحالتهم إلى التحقيق، بسبب تغريدات نشروها على حساباتهم الشخصية على «إكس» و«فيسبوك».
وأمام هذه الآلة الضخمة من الأكاذيب الغربية، يتضح أن الحرب على الفلسطينيين في غزة لم يشارك بها الجيش الصهيوني وحده، بل عشرات ومئات المواقع والفضائيات والصحف الغربية التي روجت للأكاذيب وحرضت على الفلسطينيين، وسط تعتيم على الجرائم الصهيونية في قطاع غزة.