لا تقف قراءة المشهد الفلسطيني في ظل عمليات «طوفان الأقصى» عند حد معين، لا من حيث الزمان ولا بالنظر إلى المكان؛ إذ ليس لها مديات محددة على المستوى الميداني أو السياسي، وحتى الإقليمي، وما سيلحق بذلك من تداعيات مستقبلاً؛ لأن ما جرى يعد نقلة نوعية عبّرت هيئة علماء المسلمين في العراق في موقفها الأول بأنها منطلق سيفرض على معادلة الصراع مع العدو الصهيوني مسارات لم يكن يتوقعها هو على وجه الخصوص، علاوة على أنها لم تكن مطروحة في التحليلات والرؤى لدى المراقبين للشأن الفلسطيني بشكل عام، وهو ما جعل الإجماع شبه تمام على القول بأنها مفاجأة.
المقاومة الفلسطينية.. الرقم الأصعب في المشهد
العديد من الدلالات تبدو ظاهرة على أن «طوفان الأقصى» عملية متقنة تمت صياغة خطتها على نحو يثبت جدارة المقاومة الفلسطينية وأهليتها لتكون الرقم الأصعب في المشهد، ثم إن في توقيتها ما يثبت علو كعب غزة على غلافها، فهو الآخر تم اختياره بدقة واحترافية؛ لأن مباغتة العدو على حين غفلة، ودون توقعات منه على هذا النحو؛ يعني أن المقاومة متقدمة عليه خطوات لا خطوة واحدة، ويعني أيضاً أن السرية التي اعتمدتها الفصائل في التخطيط والإعداد والتدريب والتنفيذ فاقت ما يدعيه العدو الصهيوني من قوة استخبارات، وجيش لا يُقهر مزود بأحدث التقنيات، والبطولات الزائفة لما تسمى «قوات النخبة»، وما إلى ذلك من تشكيلات ذات مصطلحات يراد لها أن تروج وهي في الحقيقة أدنى من مسمياتها وأوضع من أن تكون مؤثرة.
ما جرى في «طوفان الأقصى» نقلة نوعية ستفرض على معادلة الصراع مع العدو الصهيوني مسارات لم يكن يتوقعها
هذا النوع من عمليات المقاومة حين يتم التخطيط له وتنفيذه رغم ما تعانيه غزة من حصار ودمار ونقص كبير في الإمدادات على كافة أصنافها؛ يعني أن المقاومة تحظى بقوة أكثر مما هو متاح للعيان، ويعني أن لديها من عوامل الاستعلاء والنكاية بالعدو الشيء الكثير الذي ستكشف عنه تطورات معركة مفتوحة نرجو أن تكون كلها في صالح فلسطين وأهلها وفصائل المقاومة فيها.
ولأن قضايا الأمة الإسلامية على امتداد رقعتها واجبة الاهتمام والعناية، وفرض على كافة القوى والمؤسسات والهيئات الناشطة على الساحات كافة، فإن هيئة علماء المسلمين في العراق ومنذ خطواتها الأولى جعلت للقضية الفلسطينية حظوة ومكانة، وصارت جزءًا من ثوابت الهيئة، وأضحت أدبياتها حافلة بمضامين متعلقة بالمسجد الأقصى المبارك بوصفه جزءًا من عقيدة المسلمين، فضلاً عن إيمانها العميق بتوأمة القضيتين العراقية والفلسطينية، ولعل في أحاديث الأمين العام الراحل الشيخ حارث الضاري، رحمه الله تعالى، في هذا السياق، ما يكفي لذلك تأصيلاً وبيانًا.
دور الأمة وواجبها
ومن هنا؛ وحيث جاءت معركة «طوفان الأقصى» في هذا الوقت لم تدخر الهيئة جهدًا منذ وهلتها الأولى لبيان الموقف والرأي والدعم والتحشيد؛ انطلاقًا من كون هذه الأمّة أمة الجسد الواحد، التي اكتسبت خيريتها من الإيمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وليس من معروف أوضح أن يؤمر به من حق المسلمين في مقدساتهم ولا سيما المسجد الأقصى المبارك بوصفه حقًا إسلاميًا لا يقبل القسمة مع أحد، علاوة على كونه محور الصراع الأول مع العدو الصهيوني ومن يحالفه أو يسانده أو يطبع معه.
لذلك، دعت هيئة علماء المسلمين في العراق جميـع الـمسلمين؛ أفرادًا وشعوبًا، إلى القيام بواجب الوقت المترتب عليهم؛ عينًا وكفاية، في موقف موحد وهبّة شاملة تُظهر روح الأمة وعقيدتها، وتعلي شأن علمائها المحرضين على الجهاد، كل من موقعه وحسب تخصصه ومجال نشاطه؛ لأن هذه الفرصة التي صنعتها معركة «طوفان الأقصى» ستكون المعيار الحقيقي للانتماء إلى أمة الجسد الواحد وفي ضوئها يدوّن التاريخ شهادته.
الفرصة التي صنعتها معركة «طوفان الأقصى» ستكون المعيار الحقيقي للانتماء إلى أمة الجسد الواحد
ثم إن احتلال بلد مسلم له أرض تحظى بقدسية في عقيدة المسلمين، وتتعرّض مقاصد الشريعة الإسلامية فيه إلى أخطار جمّة، حين يستهدف كيان الاحتلال الدين، ويتمادى في إزهاق الأرواح، ومصادرة مظهر معبّر عن أكثر المنكرات الواجب النهي عنها بكافة الوسائل، ولا يقبل من المسلمين ما هو دون الحد الأدنى من مراتب النهي عن المنكر، وحديث نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم واضح في هذا المقاوم: «.. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».
كل هذه المعطيات تلقي بظلالها على دور الأمة وواجبها في المعركة مع العدو الصهيوني المحتل، ومع كل أشكال وأنواع الاحتلالات التي تشهدها بلاد المسلمين، وهذا يعني بالضرورة أن خذلان أهلنا في فلسطين وفي هذا الظرف خاصة؛ مظنة نفاق وخيانة ليس لهما في قاموس الغفران والصفح نصيب.
وفي هذا المسار من العمل المقاوم؛ يفرض الثمن الباهظ نفسه في المشهد، وهو جزء من سُنّة التدافع التي نؤمن أنّها تجري بمقادير ربّانية، ولا ينبغي أن تُدخل في النفوس المؤمنة الوهن والحسرة؛ لأن ما انهد من ماديات قابل لأن يعوّض، وما ارتقى من أرواح فإنما انتقل من فناء الدنيا إلى بقاء الآخرة؛ وهذه المعاني حينما تربو بين المسلمين فإنها تُشعر بحلاوة الإيمان، وتوقد جذوة الهمّة، فيكون النصر فتحًا، وتكون الجراح سبيلاً للثبات والصمود.
لكن هذا الثمن يتخذ منه المخذّلون وأصحاب الهوى ذريعة لتصدير اللائمة على المقاومة، وكأن الضحايا الأبرياء في غزة المحاصرة وغيرها كانوا قبل معركة «طوفان الأقصى» في مأمن من بطش الاحتلال الصهيوني، أو أنهم كانوا في حزر من جرائمه الوحشية ومجازره الآثمة! أقل ما يمكن توصيف أصحاب هذا النوع من المواقف التي تعكس محاولات واهية لكسر إرادة الفلسطينيين خاصة والأمة بشكل عام عن مواجهة الاحتلال والسعي إلى التحرير والتمكين؛ هو أنّهم مرتزقة للشيطان الذي استحوذ عليهم فصرفهم عن واجب أمتهم، وسوّل لهم الانحياز ضد الحق وأهله، واستدرجهم نحو فرص الالتحاق بمعسكر الباطل وحزبه الذي قارب أن يتهاوى بعدما زلزل «طوفان الأقصى» أركانه، وفي نهاية الجولة ستكون للتاريخ كلمته، والله غالب على أمره.
__________________________________
مسؤول قسم الإعلام في هيئة علماء المسلمين- العراق.