إذا كان ذاك شطر العنوان، فالشطر الثاني يستقيم أن يكون «فإدانة.. فشجب.. وكلام!»؛ تعبيراً عن خذلان الحكومات جميعاً -حتى ساعة كتابة المقال- أن تقف عملياً مع الحق، وتحمي مئات الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء في غزة من التقتيل والتنكيل والتهجير والإبادة.
العنصرية الصهيونية من البداية للنهاية
هذه الإبادة هي هدف الصهيونية من بدايتها، فتُبين «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية» أن الحركة الصهيونية استخدمت النظريات العرقية الغربية لتبرير نقل الشعب اليهودي المنبوذ من أوروبا، ولتبرير إبادة السكان الأصليين ليحل اليهود محلهم، وقد تبنت الصهيونية كلا جانبي النظرية العرقية الغربية، فاستخدمت النظرية العرقية في مجالها الأوروبي لتفسير ظاهرة نبذ الشعب اليهودي وضرورة نقله، واستخدمت النظرية العرقية في مجالها العالمي لتبرير طرد العرب من بلادهم.
وقد ترجمت العنصرية الصهيونية -بالباطل- نفسها إلى شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، ولفهم هذا الشعار قد يكون من الأفضل قلبه، فنقول: «شعب (يهودي منبوذ طفيلي لا نفع له في أوروبا لا ينتمي لها، لا وطن له فهو) بلا أرض، ولذا يجب نقله إلى أرض لا تاريخ فيها ولا تراث ولا بشر فهي بلا شعب، وإن وجد الشعب يمكن إبادته أو طرده من وطنه»، فكأن الصهيونية تعني بالشعار عمليتي نقل وتهجير لليهود من أوطانهم أو المنفى إلى فلسطين، وللفلسطينيين العرب من وطنهم فلسطين إلى المنفى(1).
مشاعر المتابعين لأحداث غزة
المتابع لما يحدث -مثلي- يبقى ساهراً متعباً تضطرب في نفسه مشاعر متعددة، ويقع فريسة الحزن الشديد، والعجز المُرّ، ويخشى على نفسه من اقتراب اليأس أو القنوط، خاصة عندما لا تتحرك أي قوة عربية أو إسلامية لردع الظالم، وفي الحديث الشريف تحذير لنا جميعاً، خاصة قادة الجيوش التي صدأ سلاحها من التقاعس والقعود: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» (صحيح الترمذي)، ونبهنا رسولنا صلى الله عليه وسلم: «المسلمُ أخو المسلم، لا يخونُه، ولا يكذِّبُه، ولا يخذُلْه»؛ وبالتالي فكأن المتابع يحتاج لعلاج نفسي لا يقل عما يحتاجه أهل غزة، ولمَ لا؟! فإن «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (رواه البخاري).
الثقة بحكمة الله ورحمته
حسب مشيئة الله الكونية، فالله سبحانه يكره الشيء ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره، وكونه سبباً إلى أمر هو أحب إليه من فوته؛ «فإن خلق المرض الذي يحصل به ذل العبد لربه ودعاؤه وتوبته وتكفير خطاياه ويرق به قلبه ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان، يضاد خلق الصحة التي لا تحصل معها هذه المصالح، ولذلك كان ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض، وتفصيل حكمة الله عز وجل في خلقه وأمره يعجز عن معرفته عقول البشر»(2).
وهذا لا يمنع أن دعوة المظلومين مَسموعة مُستَجابة لا تُرد، فعن عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن، فقال: «اتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب» (رواه البخاري).
ولو كَشف الله الغطَاء لِعبده وأظهر له كيف يُدبّر له أموره، وأنه أرحم به من أمّه، لذاب قلب العبد محبة لله ولتقطّع قلبه شُكراً، ولوجد أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، «ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، ومتى فتح لك باب الفهم في المنع عاد المنع هو عين العطاء»، «ليخفف ألم البلاء عنك، علمك بأنه سبحانه هو المُبلي لك، فالذي واجهتك منه الأقدار، هو الذي عودك حسن الاختيار»(3).
وإن كان المرء يؤمن بحكمة الله في كل شيء بتلك المشيئة الكونية، فالإنسان أيضاً يجب أن يتحمل مسؤوليته الشرعية للمشاركة في استعداد ورغبة وقدرة وعمل الأمة لحماية عرضها وأرضها وأبنائها.
والله عزيز ذو انتقام
جاءت كلمة المنتقم في القرآن مقيدة كقوله: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) (السجدة: 22)، وجاء معناها مضافاً إلى الله في قوله: (إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (إبراهيم: 47)؛ «فهو الذي يقصم ظهور العتاة وينكل بالجناة ويشدد العقاب على الطغاة، وذلك بعد الإعذار والإنذار وبعد التمكين والإمهال، وهو أشد للانتقام من المعاجلة بالعقوبة، فإنه إذا عوجل بالعقوبة لم يمعن في المعصية فلم يستوجب غاية النكال في العقوبة»(4).
وإن تأخر انتقام الله تعالى من بعض الظالمين فإنما يكون ذلك استدراجاً لهم وإمهالاً، فإن الله تعالى يُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ففي الحديث النبوي: «إنَّ اللهَ تبارَك وتعالَى يُملي، (وربَّما قال: يمهلُ) للظَّالِمِ، حتَّى إذا أخذَه لم يُفلِتْهُ»، ثمَّ قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) (هود 102)، (صحيح الترمذي).
ويقول تعالى: (فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (إبراهيم: 47)، يقول السعدي: أي فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ بنجاتهم ونجاة أتباعهم وسعادتهم، وإهلاك أعدائهم وخذلانهم في الدنيا وعقابهم في الآخرة، فهذا لا بد من وقوعه، وهو مطابق للحكمة الإلهية، والسنن الربانية، وللعقول الصحيحة، والله لا يعجزه شيء.
وفي سورة «الروم»: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47)، يقول ابن كثير: هذه تسلية من الله لعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه، بأنه وإن كذّبه كثير من قومه، فقد كُذبت الرسل المتقدمون مع ما جاؤوا أممهم به من الدلائل الواضحات، ولكن الله انتقم ممن كذبهم وخالفهم، وأنجى المؤمنين بهم، (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) هو حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرماً وتفضلاً.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم لله» (رواه البخاري)، فكان من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسامح في حق نفسه؛ فلم يكن ينتقم ويبطش بأحد إلا إذا انتهكت حرمات الله بالتعدي عليها وارتكاب المعاصي، فحينئذ يكون أشد الناس انتقاماً للأخذ بحق الله.
انتقام من نوع آخر
أما نوع الانتقام الصهيوني فهو الانتقام الذي يكون بقصد التشفي والتنكيل والتجاوز والإبادة، جاء في رسالة للبديع الهمداني يصف ملكاً يحسبه المتأمل إنساناً وهو شيطان «ذو يدين يبسط أحدهما إلى السفك والسفح ويقبض الأخرى عن العفو والصفح، وذو عينين يفتح أحدهما إلى الجرم ويغمض الأخرى عن الحلم، فمزحه بين القد والقطع، وحده بين السيف والنطع، لا يعرف من العقاب إلا ضرب الرقاب، ولا من التأديب غير إراقة الدماء، ولا يهتدي إلا إلى إزالة النعماء.. فلا يلقاه الولي إلا يغمه، ولا العدو إلا يذمه»(5).
وهذا مصداق لقول الله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (الأنعام: 123)، يقول السعدي: أي الرؤساء الذين قد كبر جرمهم، واشتد طغيانهم ليمكروا بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان، ومحاربة الرسل وأتباعهم، بالقول والفعل، وإنما مكرهم وكيدهم يعود على أنفسهم، لأنهم يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين.
حسبنا الله ونعم الوكيل.. يرددها الأحياء من أهل غزة وقد حرّقت مزارعهم وسويت مدنهم بالأرض ودمرت بيوتهم على رؤوس أهلها وقتل أطفالهم وقصفت طرقهم ومستشفياتهم وعربات إسعافهم، وأخرجوا من ديارهم، ومنع عنهم الماء والدواء والغذاء والوقود، واجتمعت أكبر قوة عسكرية في العالم لاستئصالهم. ورددناها معهم وقد أوشك أن يقتلنا حزننا وعجزنا، وآلم قلوبنا ضعفنا وهواننا على الناس، ونحن نرى الهدم والأشلاء والقتلى والجرحى والجوعى واليتامى والثكالى والأرامل!
وقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حينما أبلغوا برسالة المشركين: «أنا قد أجمعنا الكرة؛ لنستأصله ونستأصل أصحابه»، وقالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم أي زاد المسلمين قولهم ذلك- إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم(6).
____________________________
(1) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المسيري، دار الشروق، القاهرة، 1999، ج7، ص117.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1988، ص116.
(3) الحكم العطائية، البوطي، دار الفكر، دمشق، 2003، ج3، ص39 و224.
(4) المقصد الأسنى، أبو حامد الغزالي، دار ابن حزم، بيروت، 2003، ص139.
(5) غرر الخصائص الواضحة، أبو إسحق برهان الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 2008، ص505.
(6) الرحيق المختوم، المباركفوري، دار الوفاء، مصر، 2010، ص254.