ذهبت مع ابني لشراء بعض احتياجات الأسرة من متجر معروف، ولم أفاجأ أبدًا من إصراره على مراجعة كل المنتجات قبل وضعها في عربة التسوق للتأكد من أنها ليست أمريكية؛ فنحن نشاهد بحزن وأسى ما يحدث لأهلنا في قطاع غزة من حرب إبادة وتطهير تقودها الولايات المتحدة الأمريكية عبر حليفتها «إسرائيل»، منذ أحداث «طوفان الأقصى»، في 7 أكتوبر 2023م، وبمساندة عدد كبير من الدول الأوروبية التي تجردت من أدنى درجات الضمير وغضت الطرف عن قتل نحو 24 ألف فلسطيني، بينهم آلاف الأطفال والنساء، وإصابة أكثر من 60 ألفاً، وإجبار معظم سكان القطاع على افتراش الخيام في برد الصحراء.
تنظر الشعوب العربية بأسى مغموس بالعجز والخزي أمام تلك المجازر المأساوية لـ«إسرائيل» بحق الأبرياء العزل وهي تتحدى القانون الدولي وحقوق الفلسطينيين بلا هوادة لتحقيق مآرب استعمارية بتفريغ القطاع الذي يشكل شوكة في حلق الصهيونية، وجعله أرضاً بلا شعب!
يتساءل الشارع العربي: كيف نستطيع دفع هذا العدوان عن أهلنا؟ فيبادر البعض للتطوع بحملات لجمع التبرعات الإغاثية، فيما ينشط شباب عرب حالياً في شحذ همم المجتمع ضد العدو والتعريف بجرائمه الوحشية، ويبقى خيار الشريحة الأعرض في مقاطعة البضائع الأمريكية و«الإسرائيلية»، وهو الخيار الذي ينشط مع كل موجة انتفاضة ضد جرائم المحتل بحق الفلسطينيين عبر العقود الماضية.
سلاح المقاطعة الفعَّال
مع كل موجة مقاطعة للبضائع الأمريكية، تثبت قيمة هذا السلاح الماضي في وجه العدوان على شعوبنا، فهو سلاح سلمي بلا رصاص ولا بارود، ولكنه يصيب الهدف في القلب، وإلا لما اضطر كثير من وكلاء «البراندات» التابعة لكبرى الشركات العالمية الداعمة للاحتلال للاعتذار وتأكيد حيادها، بعد الخسائر التي منيت بها في العواصم العربية والإسلامية.
وتمتلك أمريكا صادرات للدول العربية والإسلامية بنحو 150 مليار دولار، ويبلغ حجم التبادل التجاري ما يتجاوز 300 مليار دولار خلال العام 2022م، لهذا فإن سوقًا واسعة تزيد على ملياري مسلم وعربي لا يمكن الاستهانة بها حين تقرر المقاطعة.
لقد أجبرت متاجر غربية شملتها حملات المقاطعة على الإغلاق في دول خليجية كالكويت وقطر، كما جرى في عديد من الدول العربية والإسلامية وأهمها مصر والأردن، ودول أخرى آسيوية مسلمة مثل ماليزيا، ومنها «يو إس كافيه» و«بيورا فيدا ميامي»، وتراجعت مبيعات شركات المياه الغازية مثل «كوكاكولا» في مصر بدرجة بارزة، في مقابل صعود منتجات محلية بديلة، وبدت فروع «ماكدونالدز» شبه خاوية في كثير من تلك البلدان، بعد مشاهد جنود الاحتلال البربريين وهم يحملون حقائب طعام تحمل هذا الشعار، وهو ما دعا امتياز الشركة في مصر للاعتذار وتوضيح أن ما يفعله الوكلاء في بعض الدول يؤثر عليهم، مشيراً إلى أنهم يعملون برأسمال مستقل وعمالة مصرية، في محاولة لامتصاص ردود الفعل الغاضية.
خسائر فادحة لداعمي «إسرائيل»
بحسب منصة المقاطعة «BDS»، تساعد الشركات العالمية «إسرائيل» في انتهاكاتها لحقوق الإنسان الفلسطيني، وقد أدّت حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات إلى إقدام شركات كبرى مثل «فيوليا» (Veolia) و«سي آر إتش» (CRH) على إنهاء تورطها في المشاريع «الإسرائيلية» كليًا.
وإذا علمنا أن الاقتصاد «الإسرائيلي» يعتمد على التجارة والاستثمار الدوليّين بشكل كبير، مما يجعل «إسرائيل» عرضة للمزيد من الضغط عبر المقاطعة الاقتصادية الدولية.
ويدعم المشروع الفلسطيني مقاطعة شركات عالمية، مثل «جي فور إس» (G4S)، و«إتش بي» (HP)، وهي تساعد «إسرائيل» في الحفاظ على منظومة الاستعمار الاستيطاني.
وقد ذكر تقرير مهم لصحيفة «تليغراف» البريطانية، أن استهداف العلامات التجارية الأمريكية الأشهر مثل «ماك» و«دومينوز بيتزا»، ومنتجات أوروبية مثل «بوما» الألمانية، وسلسلة «كارفور» الفرنسية، قد أثر سلباً على اقتصاديات تلك الشركات، وذلك بعد مقاطعة عربية وتركية ضخمة.
وقد اضطر فرع «ماكدونالدز» في الكويت، أوائل نوفمبر 2023م، للتبرع بمبلغ 250 ألف دولار للهلال الأحمر الكويتي لجهود الإغاثة في غزة، مؤكداً أنها شركة كويتية بنسبة 100%، كما فعل الوكيل المصري للشركة نفسها، ما يشير لأثر حملات المقاطعة.
وقد امتدت موجات الاحتجاج الرافضة لقلب العواصم الأوروبية ومن ذلك عبارات «CHILDREN KILLERS»، قتلة الأطفال.. أمام أبواب محال «ستاربكس» في بريطانيًا رفضًا لدعمهم الكيان «الإسرائيلي» في حرب غزة 2023م، وسط مظاهرات ضخمة تندد بجرائم «إسرائيل»، كما واجهت شركة الأزياء العالمية «زارا» (Zara) شكوكًا بشأن علاقاتها المحتملة مع «إسرائيل»، واقتحم متظاهرون بأوروبا فروعاً للشركة وألقوا بالملابس في الشوارع؛ بعد ظهور ملصق إعلاني يسخر من حرب غزة؛ ما دعا الشركة لامتصاص غضب الشارع والاعتذار ومسح الملصق المسيء الذي يظهر عارضة تحمل كفناً.
أما شركة الملابس الرياضية «بوما» فأعلنت وقف رعايتها للمنتخب «الإسرائيلي» لكرة القدم، بعد دعوات المقاطعة التي طالتها في عديد من البلدان.
ديمومة المقاطعة
يبدو هذا السلاح أكثر أهمية اليوم، كجهاد حقيقي لشعوبنا، وبتعبير المفكر الراحل د. عبدالوهاب المسيري فهو من أدوات «الحوار المسلح»؛ ويقصد به أن يرسل الطرف المعتدى عليه للظالم المسلح رسائل نقدية ليؤكد إنسانيته وسيادته ويحصل على حقوقه المغتصبة.
واستقراراً على قاعدة فاعلية سلاح المقاطعة، يجب ألا يتحول هذا السلاح لموضة تنفيس غضب شعبية تنتهي مع كل موجة عدوان صهيونية جديدة؛ لأن استمرارية المقاطعة وليس مجرد البدء بها هو ما يحولها لسلاح فعال يهوي بتلك الشركات الداعمة للاحتلال، وفي هذا السياق؛ تنشط حملات أكثر وعياً واستمرارية وفاعلية، لبناء شبكة المقاطعة الشاملة للمنتجات الداعمة لـ«إسرائيل»؛ ثقافياً ورياضياً وفنياً واقتصادياً، وأهمها منصة «BDS»، وهو تحالف فلسطيني للتعريف بتلك المنتجات والشركات والدول الداعمة ومقاطعتها، إضافة لتطبيقات حديثة من عينة التطبيق الأشهر حالياً «بدناش» الذي تصدّر محركات البحث العربية، وهو يوفر لك محركاً سهلاً لمعرفة المنتجات التي تندرج تحت المقاطعة.
إن المقاطعة لا تحقق أبعاداً اقتصادية فحسب، ولكنها تحرر أمتنا من عبوديتها وتبعيتها، وتشجع المنتجات المحلية، وتحيي مفهوم الولاء في شبابنا وتربينا على فكرة ترشيد الاستهلاك في عصر السوق، وفكرة المقاومة الغائبة ضد العدوان الغربي، وتشجعنا على التفكير كدول جدياً في تحقيق الاكتفاء الذاتي اقتصادياً، فمن لا يملك قوت يومه لا يملك قراره ولا كرامته!