«دم ابني ليس أغلى من دم أطفال غزة»، هكذا لخصت أم الشهيد البطل صالح العاروري مشاعرها، عندما أخبروها باستشهاده في لبنان.
كانت كلمات السيدة التي تجاوزت الثمانين من عمرها ملخصًا لكل أم فلسطينية ربت أولادها على الشهادة، ودربت نفسها على الصمود عند تلقي خبر انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
أذهلت أسرة العاروري العالم عندما قالت شقيقته: إنه طلب الشهادة فنالها، وقالت أمه ما قالته، والتفت كل الأسرة حول المعزين تدفع في قلوبهم الصمود، وحب الشهادة، وتتناسى أحزانها رغم الفقدان الجلل.
وفي استكمال للصورة، باتت مشاهد نساء غزة اللواتي يخرجن من تحت أنقاض بيوتهن، ويعلنّ أمام العالم كله: أولادنا، وبناتنا، وأزواجنا، فداء المقاومة، وفداء غزة، وفداء فلسطين، وفداء الأقصى.. لا يمكن تفسير هذه المشاهد أمام الإجرام «الإسرائيلي» إلا بأن الشعب الفلسطيني يربط بين عقيدته ووطنيته، بين تراب شوارعه ومساجده، بين حبه للشهادة وحبه لوطنه، بين رجولة فقدها الكثير فتجمعت في أبناء فلسطين، وتاهت عن رجال كثيرين في هذا الوطن، بل في كل العالم.
بين آثار الحروب والصمود بسجون الاحتلال
في عالم يغلفه الظلام والحرب، تنبثق حكاية مؤلمة تتركز حول نساء فلسطين، فالحروب لا تترك أثرها إلا وقد حملت بألمها وتعقيداتها المدمرة، وخاصة على نساء هذا الشعب الصامد، اللاتي يعانين بشكل مباشر وغير مباشر من آثار الصراع، حيث تستهدفهن الظروف القاسية والنتائج القاتلة التي تخترق كل جوانب حياتهن.
وتعاقبت ليالي الحرب وأيام العدوان الصهيوني، ومعها تصاعدت حملات القمع والتنكيل بحق النساء في السجون، حيث تمثلت في عمليات الانتقام الجماعي من أفراد شعب فلسطين.
وكأداة لترويعهن ومعاقبتهن، وجه الكيان الغاصب الاعتداءات والاستهداف للنساء المحتجزات، فتم رش غرفهن بالغاز السام، وفرضت عقوبات فظيعة، منها حرمانهن من الزيارات، وسحب الأدوات الكهربائية، وتهديدهن بالقتل والاغتصاب، وعزلهن انفرادياً في الزنازين، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل شمل منع الصليب الأحمر الدولي من الزيارة، ومنع المحامين من لقاء موكلاتهن، مع تحويل السجون إلى مراكز تعذيب وقتل.
وفي ظل هذا السيناريو المروع، تتسارع حالات اعتقال النساء، حيث ارتفعت أعدادهن إلى نسب غير مسبوقة منذ اندلاع العدوان على غزة، ليُستخدم اعتقالهن كوسيلة للضغط على أقربائهن، وتحويل العديد منهن إلى الاعتقال الإداري دون محاكمة عادلة.
مشاعر مختلطة بين الفرح والحزن
حتى مع فرحة التحرر من قيد السجان، عاشت أسيرات فلسطين تجربة مؤلمة مليئة بالتحديات والصعاب، حملن فيها عبء الاحتلال بكل مفرداته، فكانت ولاء طنجة، الشابة ذات الـ27 عامًا، جزءًا من هذه القصة الصعبة، حيث قضت 15 شهرًا في سجون الاحتلال «الإسرائيلي»، وعلى الرغم من الفرحة بالحرية المنتظرة، فإن طريق الإفراج كان مليئًا بالآلام والانتهاكات.
لم تكن لحظة الإفراج سهلة كما يمكن أن يتخيل البعض، بل كانت مرفقة بسلسلة من التجاوزات والانتهاكات التي واجهتها ولاء ورفيقاتها؛ من تقييد الأيدي، وتصويرهن عاريات، إلى تعرضهن للضرب والشتم، وتجاوز الاحتلال معهن كل حدود الإنسانية، حتى عند الخروج من السجن، لم يلتفت جنود الاحتلال إلى حاجاتهن الأساسية، فأخرجوهن حفاة الأقدام، إمعانًا في القسوة والظلم والإذلال من جانب الاحتلال الطاغي الذي لا يعرف معنى للرحمة.
وتظل قصة أسيرات غزة مزيجًا من الفرح بالحرية والحزن على فقدان الأحباء، فالتحديات التي تنتظرهن بعد الإفراج تبرز صعوبة الطريق، ولكن يظل الصمود والإرادة الفلسطينية هما القوة الدافعة لتحمل أعباء الحرية ومواجهة التحديات بكل قوة وإصرار.
لقد كان مبهراً لكل من شاهد خروج الأسيرات من سجون الاحتلال في صفقة المبادلة الأخيرة، وهن يذكرن جميعًا أن فرحتهن لم تكتمل؛ لأن هناك أسرى وأسيرات بالسجون، وينتظرون خروجهم جميعًا، ولأن هناك عدواناً إجرامياً لا يزال مستمرًا على شعب غزة.
إذاً، كانت الفرحة منقوصة لأنهن يعرفن الوفاء لفلسطين، كل فلسطين، كما يعرفن الوفاء للمقاومة والأسرى.
بين ألم الفراق وصمود الحياة
وفي لقطة مؤثرة، نجد إحدى النساء وهي تحتضن أطفالها وتستغيث بزوجها الذي رحل: «أين ذهبت يا زياد؟ تركتني وأولادك؟ كيف سنواجه الحياة بعد فقدك؟!»، تلك الكلمات الصادقة تعكس الحاجة الماسة للدعم والرعاية، فالرسالة تعد صرخة عاطفية تستحق الاهتمام والتفكير، التي يجب معالجتها بكفالة فريدة لهؤلاء النساء الباسلات.
كشفت السيدة في مشهد مؤثر عن حياة الأرملة في غزة، التي تتعرض لتحديات لا يمكن تصورها، فتفتقر بعضهن للمعلومات عن أماكن أبنائهن، وإذا عُثر عليهم، يواجهون صعوبة في الحصول على مأوى وطعام وملابس، فالحياة باتت معضلة لا يمكن حلها، وهن مضطرات لتحمل الأعباء الكبيرة والمسؤوليات بمفردهن.
والحديث عن سيدات غزة ليس مجرد سرد لأحداث، بل صورة حية للتحديات والمعاناة التي تواجهها النساء في هذا الجزء الصامد من العالم، الذي يظهر واقع الحروب والاحتلال بكل تعقيداته، وتعيش فيه النساء تجارب مريرة، سواء كنّ في السجون تحت ظروف قاسية أو أطلال منازلهن المدمرة.
تعكس حياة الأمهات والزوجات والأرامل والأسيرات في غزة شجاعة وصمود النساء الفلسطينيات اللواتي يقفن بقوة في وجه التحديات، فتظهر قوة الإرادة والعزيمة في وجوههن، حيث يتحدين الألم والفقدان بالصمود والأمل في وجه العدو الغاشم المحتل الذي لا يعرف رحمة.
وعلى الرغم من الصعاب، فإن النساء في غزة يعبرن عن إصرارهن على الحياة والتمسك بقيم الكرامة والحرية، فقد تكون قصصهن مؤلمة، ولكنها تروي حكاية قوة لا تقهر وإرادة تتحدى الظروف الصعبة.
يجب أن يقف الجميع إجلالًا لنساء غزة، اللواتي يقمن بدورهن بشجاعة وإصرار، كما يجب في أضعف الإيمان أن يقدم الجميع الدعم المادي والمعنوي من أجل توفير الظروف الإنسانية اللائقة لحياتهن وحياة أسرهن.