السماحة أول أوصاف الشريعة، وأكبر مقاصدها، والسماحة: سهولة المعاملة فيما اعتاد الناس فيه المشادّة، فهي وسط بين الشدة والتساهل، ولفظ السماحة أرشقُ لفظ يدل على هذا المعنى، وتدلُّ السماحةُ على خلق الجود والبذل، وفي الحديث عن جَابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: «رحمَ اللهُ رَجُلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى».
فالسماحة من أكبر صفات الإسلام الكائنة وسطاً بين طرفي إفراط وتفريط، وفي الحديث الصحيح عن ابن عبّاس عن رسول الله ﷺ: «أحبُّ الدينِ إلى اللهِ الحنيفيةُ السمحةُ».
فرجع معنى السماحة إلى التيسير المعتدل، وهو معنى اليسر الموصوف به الإسلام، قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: 185).
واستقراء الشريعة يدل على هذا الأصل في تشريع الإسلام، فليس الاستدلال عليه بمجرد هذه الآية، أو هذا الخبر، حتى يقول معترضٌ: إنَّ الأصول القطعية لا تثبتُ بالظواهر، لأنَّ أدلةَ هذا الأصل كثيرةٌ منتشرةٌ، وكثرة الظواهر تفيد القطعَ، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس في مواضعَ من «الموطأ»: ودينُ اللهِ يسرٌ، وحسبُكَ بهذه الكلمة من ذلك الإمام، فإنّه ما قالها حتى استخلصها من استقراء الشريعة، إنّ السماحةَ أكملُ وصفٍ لاطمئنان النفس، وأعونُ على قبول الهدى والإرشاد، قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: 159).
إنَّ حكمةَ السماحة في الشريعة أنَّ الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة، وأمور الفطرة راجعةٌ إلى الجبلة، فهي كائنة في النفوس، سهل عليها قبولها، ومن الفطرة النفور من الشدة والإعنات، قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ (النساء: 28).
وقد أرادَ اللهُ أن تكونَ الشريعةُ الإسلاميةُ شريعةً عامةً دائمةً، فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذُها بين الأمة سهلاً، ولا يكونُ ذلك إلا إذا انتفى عنها الإعنات، فهي بسماحتها أشدَّ ملاءمة للنفوس؛ لأنَّ فيها إراحة النفوسِ في حاليْ خُوَيصتها ومجتمعها.
وقد ظهر للسماحة أثرٌ عظيم في انتشار الشريعة، وطول دوامها، إذ أرانا التاريخُ أنّ سرعة امتثال الأمم للشرائع، ودوامهم على اتباعها؛ كان على مقدار اقتراب الأديان من السماحة، فإذا بلغَ بعضُ الأديان من الشدة حدّاً متجاوزاً لأصل السماحة لحق اتباعه العنت، ولم يلبثوا أن ينصرفوا عنه، أو يفرِّطوا في معظمه.
وقد حافظ الإسلام على استدامة وصف السماحة لأحكامه، فقدّر لها أنها إن عرض لها من العوارض الزمنية أو الحالية ما يصيرها مشتملة على شدة فتح لها باب الرخصة المشروع بقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ (البقرة: 173)، وبقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ (الأنعام: 119)، وفي الحديث: «إنّ اللهَ يحبُّ أن تؤتى رُخصُه كما يُحِبُّ أن تؤتى عزائمُه»، ومن قواعد الفقه المشهورة: «المشقة تجلب التيسير».
1- ومن سماحة القرآن الكريم، إنكارهُ على أصحاب النزعات المتطرّفة، والذين يحرّمون الطيبات والزينة التي أخرج لعباده. (بن عاشور، 2006، ص52) قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {31} قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف).
وفي القرآن المدني يخاطب الجماعة المؤمنة بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {87} وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ (المائدة).
وهاتان الآيتان الكريمتان تبينان للمسلمين حقيقة منهج الإسلام في التمتع بالطيبات، ومقاومة الغلو الذي وُجِدَ في بعض الأديان، أو عند بعض المتنطعين.
2- ومن سماحة الإسلام أيضاً ما يتبعه من منهج في الدعوة إلى الله عز وجل، وجدال المخالفين، ففي القرآن الكريم قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: 125).
ومن تأمّل الآيةَ الكريمةَ يجدُ أنّها لا تكتفي بالأمر بالجدال بالطريقة الحسنة، بل أمرت بالتي هي أحسن، فإذا كان هناك طريقتان للحوار والمناقشة إحداهما حسنة، والأخرى أحسن منها، وجب على المسلم أن يجادِلَ بالتي هي أحسن؛ جذباً للقلوب النافرة، وتقريباً للأنفس المتباعدة.
3- من سماحة النبي ﷺ أنّ فتى من قريش جاء إلى النبي ﷺ يستأذنه في الزنى، فثار الصحابة، وهمّوا به لجرأته على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنّ النبيَّ ﷺ وقف موقفاً آخر فقال: «ادنه»، فدنا، فقال: «أتحبه لأمك؟» قال: لا واللهِ، جعلني الله فداك؟ قال: «ولا الناسُ يحبونه لأمهاتهم»، ثم قال له مثل ذلك في ابنته وأخته وعمته وخالته، في كل ذلك يقول: «أتحبه لكذا؟» فيقول: لا، جعلني الله فداك، فيقول صلى الله عليه وسلم: «ولا الناسُ يحبونه»، فوضع يده عليه، وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصّن فرجه»، فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء.
وإنما عامله النبي ﷺ بهذا الرفق، تحسيناً للظن به، وأنَّ الخير كامِنٌ فيه، والشر طارئ عليه، فلم يزل يحاوره حتى اقتنع عقله، واطمأن قلبه إلى خبث الزنى وفحشه، وكسب مع ذلك دعاء النبي ﷺ.
________________________
1- علي محمد الصلابي، الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، 1432ه-2011م، ص 143-147
2- عمر عبد العزيز، سماحة الإسلام، المكتبة الذهبية، 1427-2006.
3- محمد الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، دار السلام، القاهرة، 1426-2005.
4- محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر عام النشر: 1425هـ – 2004م.