عَرضت مجلة «لوبس» الفرنسية الفيلم الوثائقي (3 أجزاء)، الذي أخرجه المخرج البريطاني نيك غرين، بمسلسل وثائقي في أكتوبر 2018م، يُظهر فيه قصة تطور بشار الأسد، ذلك الفتى الذي لا يشعر بالثقة، والذي لم يكن متوقعاً له الوصول إلى السلطة لصبح قاتلاً جماعياً، ويعرض الجزء الثالث الذي حمل عنوان «ماذا بقي له من الإنسانية؟»؛ يبدأ بمقابلة مع الطبيب السوري زاهر سحلول الذي التحق بكلية الطب في لندن البريطانية مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، وكان يعرفه جيداً، وهو يقول فيها: «هذا مثير للسخرية؛ كنا زملاء، واليوم أحدنا يقصف المستشفيات، والآخر يعالج ضحايا القصف».
على حافة الموت.. المواطنون في جمهورية «الظلام» الثالثة
في نهاية عام 2010م، كان متوسط الراتب الحكومي في سورية 8 آلاف ليرة سورية (170 دولاراً أمريكياً)، ومع بداية عام 2024م، لم يعد يتجاوز متوسط الراتب 250 ليرة سورية (16 دولاراً فقط)! وارتفعت تكاليف المعيشة لعائلة سورية مكونة من 5 أفراد، في مناطق الأسد، لأكثر من 12 مليون ليرة سورية، وهو ما جعل النظام يعمل على تخفيف بعض ضغوط مؤيديه عبر سياسة عسكرة المجتمع، وهو ما تم فعلاً من خلال تسهيل التعاقد معهم كمرتزقة ضمن القوات الروسية في أوكرانيا وأرمينيا وأفريقيا وغيرها.
تحولت الحياة اليومية في «جمهورية الظلام الثالثة» أو كما سماها رأس النظام «سورية المفيدة»، لحياة شبه مشلولة، حيث لم يعد لدى النظام ما يُقدمه لأكثر من 10 ملايين سوري خاضعين لسلطته، وبالكاد يستطيع الناس البقاء على قيد الحياة، والنسبة المئوية للفقراء تتزايد كل يوم، بالإضافة إلى النقص الحاد في مادة الخبز، وغاز الطهي، وغياب الكهرباء، ووسائل التدفئة، خلال فصل الشتاء القاسي هذا العام، في حين واصلت العملة السورية (الليرة) انخفاضها، وهو ما أدى إلى ارتفاع الأسعار ثلاثين ضعفاً في الحد الأدنى بين عامي 2011 و2024م، وانخفضت نسبة الولادات، وازدادت عمليات الإجهاض في مناطق الأسد، في ظل تردي الأوضاع المعيشية، وأكدت إحدى الطبيبات المختصات لصحيفة «تشرين» الموالية أن حالتين إلى ثلاث حالات لنساء يَرغبن بإجهاض الجنين ترد إلى عيادتها بشكل يومي.
ولخص هذا الواقع المبعوث الأمريكي السابق إلى سورية جويل رايبورن في تغريدة على موقع «إكس»: «مناطق النظام السوري تفتقر إلى المحروقات والطاقة، والتجارة، وشوارعها فارغة، بينما يستمر النظام بطبع العملة لدفع الرواتب فقط».
لم يسبب «قانون قيصر» أو مقاطعة الغرب هذه الحالة من الفقر، والبطالة، والتضخم، والجرائم، والظلم، بل فساد أجهزة النظام، وسطوة تُجار الحرب الذين أثروا منها (محدثو النعمة)، وهيمنة الإيراني والروسي، هو السبب الأول والأخير، وقبل زيادة الرواتب التي أقرها رئيس النظام السوري، كان راتب المدرس السوري يشتري علبتي حليب لطفل رضيع، بعيدًا عن أيّ احتياجات أساسية أخرى، وفي حال أراد الاستغناء عن علبتي الحليب، يُمكن أن يشتري له هذا المبلغ أساسيات طبخة واحدة تتكون من كيلو واحد من لحم الغنم، وكيلوين من الأرز، وعلبة سمن، وكيلو من البطاطا، وكيلو من الطماطم، وكيس خبز، فما الحل للغز الموت؟ الحل الحالي هم «المغتربون»، الذين هجَّرهم الأسد وشبيحته وحلفاؤه إلى أوروبا ودول الجوار، الذين تشكل تحويلاتهم لداخل مناطقه نحو 5 ملايين دولار أمريكي يومياً (تقريباً).
جحيم تحت الأرض لمن يقول «لا»!
بعد الثورة السورية، تحولت سجون نظام الأسد إلى مسالخ بشرية، حيث تُرتكب جرائم وإعدامات بالجملة، ولم يُفرِّق أتباع النظام بين الشيوخ والشباب والنساء، وفي كتاب «الغولاك السوري: داخل معتقلات نظام الأسد» للباحث الهولندي أوغور أوميت أنجور، أستاذ دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة أمستردام ومعهد «NIOD»، والناشط الحقوقي السوري جابر بكر، الذي اعتُقل بين عامي 2002 و2004م في سجن صيدنايا العسكري يتلخص الجحيم، إذ يستمد الكتاب اسمه من معسكرات الاعتقال السوفييتية المرعبة، ويكشف عن مأساة السجون خلال فترة حكم الأسدين الأب والابن، ويعتمد الكتاب مصادر تشمل مقابلات وتقارير ومذكرات ورسوماً وخرائط وصوراً، بالإضافة الى منشورات في وسائل التواصل الاجتماعي، فالاعتقال والتصفية الجسدية أصبحا مصير كل من يحتج على فساد منظومة الأسد من الساكنين في جمهوريته المظلمة.
فلسفة الأسد: جمهورية الظلام أم جمهورية المساطيل!
أراد النظام السوري تجميع شعب موالٍ له (حسب رؤيته الأمنية: جمهورية من المساطيل)، وأسس الأسد ومليشياته بالتعاون مع إيران و«حزب الله» إمبراطورية من «الكبتاغون»، وبات تداول الأخبار المتعلقة بالمخدرات حدثاً شبه يومي؛ فمؤخراً في الأردن وحده، تم ضبط ما يقارب 20 مليون حبة مخدرات، وأحبط أكثر من 15 عملية تهريب خلال فترة وجيزة من الزمن على الحدود الأردنية وحدها.
وأشارت التقارير الطبية إلى تفشّي المهدّئات، والحبوب المخدّرة في مناطقه، ولا سيما بين ضحايا الحرب، وطلبة الجامعات والمدارس، وبأسعار بسيطة حيث لا يتجاوز سعر الجرام الواحد نصف دولار، وأن الدخل الأكثر ربحاً للأسد المخدرات، فهناك 15 مصنعاً داخل مناطق الأسد تنتج: «الكبتاغون«، و«الأمفيتامين»، و«الكريستال ميث».. وغيرها.
ونشرت صحيفة «دير شبيغل»، في تقرير لها (يونيو 2021م)، بأن رأس النظام الأسد يُشرف شخصياً من وراء ابن عمه سامر الأسد على صناعة وتجارة المخدرات، عبر أطراف أربعة: القصر، والفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد، و«الحرس الثوري الإيراني»، و«حزب الله»، فالأضرار لم تقتصر على الفرد السوري، بل طالت المجتمع، وهزت سياجه الروحي والأخلاقي، وبسببها زادت معدلات الجريمة والعنف، وساهمت بمزيد من الإفقار، نتيجة استغلال المروجين للمتعاطين.
الدعارة في جمهورية «الظلام»
تفاقم الأزمات الاقتصادية في سورية أدى إلى انتشار ظاهرة استغلال النساء في الدعارة؛ إذ أصبح لها تجارتها الخاصة، ومستثمرون اجتازت أنشطتهم الحدود، وزاد أمر تسهيل الدعارة، وترويجها على مستوى طلبة الجامعات والمدارس، والنازحين والنازحات إلى دمشق وحلب واللاذقية وحمص؛ عنوة واغتصاباً من ضباط الأسد وشبيحته، أو في سوق الدعارة العلني في بيوت مخصصة، وصالونات تجميل، ومقاهٍ، وكلّ هدفهن البقاء على قيد الحياة، مقابل قروش تسد الرمق (10 – 15 دولاراً يومياً).
نظام جمهورية الظلام بنكهة إيرانية وروسية
تعزّز وضع نظام الأسد، بوصفه رهينة في أيدي الإيرانيين والروس، وأصبح اقتصاده أكثر ارتباطاً بالمصالح الإيرانية، برفقة نظيرتها الروسية، وأصبح الأسد أكثر ضعفاً، وأقل استقلالية، وأصبح النفوذ الإيراني أكثر سطوة وشراسة مع مطلع عام 2024م، وباتت سورية الأسد بنكهة إيرانية وروسية؛ ثقافياً وتربوياً وعقائدياً واجتماعياً واقتصادياً، والهدف من ذلك كله تغيير الواقع الديموغرافي والديني السوري لخلق حالة تجانس اجتماعي، نادى بها رأس النظام في جمهورية الرعب.
ولم ينفع تأهيل النظام العربي لبشار الأسد، فهو لم يكتف بتحويل سورية إلى خرابة على حافة الإفلاس والمجاعة، وإنما في تسليم بلد بأكمله للروس والإيرانيين، وتصدير أطنان المخدرات يومياً إلى بلدان التطبيع العربية.
حوَّل نظام الأسد سورية الدولة إلى جمهورية الرعب والظلام، تعيث فيها عصاباته وحلفاؤه فساداً، عبر سياسة الاستئصال، وتفكيك المجتمع وتهجيره، ونشر الفساد المالي والأخلاقي، وكل ذلك في سبيل بقائه حاكماً ولو على مقابر وأشلاء ونازحين، ومدن وقرى مدمرة ومنهوبة ومحتلة.