بجانب ما يرتكبه الاحتلال الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني، من جرائم وإبادة ومجازر بشكل جماعي، هناك أيضًا جرائمه بشكل فردي، أي الاغتيالات؛ بما يعني أن الاحتلال لا يدع أي وسيلة إجرامية للتنكيل بالشعب الفلسطيني، بل والانتقام من كل من يتخذ المقاومة منهجًا له، في فلسطين وخارجها.
وينطلق الاحتلال الصهيوني في سلوكه الإجرامي هذا، من تصور خاطئ مفاده أنه يستطيع إيقاف مسيرة المقاومة عبر استهداف رموزها وقادتها ورجالاتها الكبار؛ الذين لا شك أنهم يملكون من الخبرة والرصيد ومن التاريخي النضالي ما يُعد خسارة كبرى بفقدهم.
الجذور الأولى
وعند تأمل الإرث الإجرامي للكيان الصهيوني نجد أن وسيلة الاغتيال راسخة لديه فيما يستخدمه من وسائل للتنكيل بالمقاومة، ومحاولة وقف مدها المتصاعد، ويمكن النظر إلى سجلهم الأسود في قتل الأنبياء، باعتباره الجذور الأولى التي شكلت ورسخت لديهم الاغتيال كوسيلة يلجؤون إليها حين يعجزون عن مواجهة أصحاب الحق.
واليهود، من بين سائر أصحاب الكتب والرسالات، لهم تاريخ ممتد في قتل الأنبياء، حتى استحقوا عن جدارة وصف «قتلة الأنبياء»؛ (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ۖ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) (المائدة: 70)، قال ابن عباس: كان فيمن كُذِّبُوا: محمد، وعيسى، وفيمن قُتِلوا: زكريا، ويحيى، وقال الزجاج: فأما التكذيب فاليهود والنصارى يشتركون فيه؛ وأمّا القتل فيختصّ اليهود (زاد المسير في علم التفسير، 1/ 570).
امتداد رقعة الاستهداف
وعلى مدار التاريخ المعاصر، توسعت وامتدت رقعة الاستهداف الصهيوني عبر الاغتيال، في مسارين:
– في الشخصيات: حتى شملت مقاومين وسياسيين وعلماء ومثقفين وصحفيين، ومن مختلف الفصائل، والأسماء في هذا لا تحصى؛ يكفي أن نذكر: غسان كنفاني، ناجي العلي، خليل الوزير، عماد عقل، فتحي الشقاقي، يحيى عياش، أبو علي مصطفى، أحمد ياسين، عبدالعزيز الرنتيسي، ياسر عرفات، نزار ريان.. إلى صالح العاروري (2 يناير 2024م)، فضلاً عن اغتيال العلماء: علي مصطفى مشرفة، يحيى المشد، جمال حمدان.
– في المكان: فلم تقتصر رقعة مسرح جريمة الاغتيالات على أرض فلسطين الطاهرة، وإنما امتدت إلى مدن وعواصم عربية وغربية؛ مثل: لندن، تونس، دبي، بيروت، القاهرة.
وهذا التنوع في الشخصيات المستهدفة وفي مسرح الجريمة، يبين أن الكيان ليس عنده رادع من قانون ولا أخلاق، وأن الدناءة والخسة تليقان به!
وقد بلغت الجرأة في استخدام الاغتيال كوسيلة، أن صرح الكيان الغاصب، بعد «طوفان الأقصى» -وفي محاولة منه لرد اعتباره الذي تزلزل- بأنه سيلاحق قادة المقاومة في عدة دول، وذلك على غير عادتهم في الإعلان مسبقًا، أو تبني عمليات الاغتيال.
فقد أعلن رئيس جهاز الأمن الداخلي «الإسرائيلي» (الشاباك)، رونين بار، أن «إسرائيل» ستلاحق قادة حركة «حماس» في قطر وتركيا ولبنان، حتى لو استغرق الأمر سنوات، وقال في تسجيل أذاعته «هيئة البث العامة الإسرائيلية»: حدد لنا مجلس الوزراء هدفًا، وهو القضاء على «حماس»، هذه ميونخ الخاصة بنا، سنفعل ذلك في كل مكان، في غزة، في الضفة الغربية، في لبنان، في تركيا، في قطر، ربما يستغرق الأمر بضع سنوات لكننا مصممون على تنفيذه.
وهو بذكره ميونخ، كان يشير إلى رد فعل «إسرائيل» على مقتل 11 من أعضاء الفريق الأولمبي «الإسرائيلي» عام 1972 عندما شن مسلحون من منظمة «أيلول الأسود» الفلسطينية هجومًا على دورة الألعاب الأولمبية في ميونخ، وردّت «إسرائيل» بتنفيذ حملة اغتيالات مستهدفة نشطاء وأعضاء المنظمة على مدى عدة سنوات وفي عدة دول، حتى نالت منهم جميعًا وأغلقت الملف. («RT Arabic»، بتاريخ 3 ديسمبر 2023م).
المسيرة لا تتوقف
كما أشرنا، فإن الاحتلال يعتقد أنه بالوسيلة القذرة؛ الاغتيال، يمكن أن يوقف مسيرة المقاومة أو يعرقلها، لكن تاريخ العمل البطولي على أرض فلسطين خير شاهد على أن المقاومة، وإن خسرت الكثيرة بفقد قادتها، فإنها بفضل الله استطاعت أن تكمل المسيرة، وتُطوِّر الأدوات، وتحزر تقدمًا نوعيًّا في الأداء، بما يقض مضاجع الاحتلال، ويؤكد فشل رهاناته الخاسرة في القضاء على المقاومة باستهداف قادتها وأبطالها.
إن منهج المقاومة يجعل من الفكرة هي الأساس والمبدأ والمنطلق، بينما يكون الشخص قائدًا أو جنديًّا، حاملاً للراية، ومتحركًا بالهدف، وهذه المعادلة الواضحة ما يجعل المقاومة ولاَّدة مبدعة، لا تتوقف عند فقد القادة -وهو فَقْدٌ فادح وثمنٌ غالٍ بلا شك- ولا تتراجع عن الطريق حتى تتحرر الأرض والمقدسات من دنس المحتل الغاصب.
وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الفكرة هي الأساس، وأنه لا يجوز التراجع عنها حتى لو غاب- بالموت أو القتل- مبلِّغُها وحاملها إلى الناس، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك في قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144) (لمالك بن نبي تناول مهم لهذا المعنى، في كتابه: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي).
ولهذا، فإن خير وفاء للفكرة وللقادة هو حمل الراية من بعدهم، وإكمال المسيرة التي بدؤوها، وهكذا تفعل المقاومة بفضل الله، مخيِّبة ظن الاحتلال الغاصب، وكم تخيِّب له من ظنون!
الشهادة تليق بالقادة
وإذا تدبرنا جريمة الاغتيال، من وجهها الآخر، الذي يتصل بهؤلاء الأبطال الذين نذروا أنفسهم لله تعالى، ووهبوا حياتهم لقضيتهم العادلة ومقدساتهم الغالية؛ لوجدنا أن هذه الوسيلة القذرة من العدو الجبان، إنما تمنح القادة والأبطال أعز ما يطلبون، وهو الاستشهاد في سبيل الله، وأن تكون دماؤهم الطاهرة وقودًا لمعركة التحرير، ورِيًّا للأرض الظامئة إلى ما يغسل عنها دنس الاحتلال.
فالشهادة تليق بالقادة، وهي خير وسام يختم به الأبطال حياتهم بعد عقود من التضحيات والمطاردات، وهي بإذن الله مكافأة غالية ووسام رفيع من الله تعالى لما بذلوه وقدموه.
وهنا، أشير إلى هذا التصريح المهم بما يحمل من أخلاق ومعانٍ رفيعة وإحساس مرهف، الذي أجاب به الشهيد صالح العاروري حين سئل في أحد لقاءاته الأخيرة (مع «الميادين»): هل اغتيال العاروري يعني الحرب؟ فقال: إن دماءنا وأرواحنا ليست أغلى ولا أعز من أي شهيد، ولا يجوز لأم شهيد أن تشعر أن دماء القائد أو المسؤول أعز وأغلى من دماء ابنها، نحن سواسية، والشهيد الذي سبقنا بيوم أفضل منا، لم أتوقع أن أصل إلى هذا العمر، فإن الشهادة ولقاء الله هو الفوز العظيم الذي نتمنى أن تختم به الحياة.
كما قال: لا يخيفنا أحد بالشهادة؛ لأن الشهادة دعاؤنا الدائم أن يتقبلنا ربنا شهداء، وإذا استشهدنا فنحن نسير على درب كرام هذا الشعب وهذه الأمة، خيار هذا الشعب يذهبون شهداء، وإن شاء الله ربنا يتقبلنا من بين هؤلاء الكرام والخيار.
إنها كلمات تفيض بالخلق الراقي، ومشاركة جماهير المقاومة في تضحياتهم بإحساس صادق من غير استعلاء، وبأن الشهادة غاية يطلبها أصحاب القضية، وإن رآها الاحتلال عقوبة قد توقف المسيرة، لكن خاب ظنه ومسعاه!