نحن العرب نريد لفلسطين أن تكون عربية، وأن تبقى عربية فتبقى لها بشاشة النبوة، وحلاوة الإيمان، وجاذبية الوحي وروحانية الشرف، ومخايل السامية، وصبغة السماء.
نريد أن تبقى عربية الأنساب، سامية الأحساب، سماويّة الأسباب، تتماسك أجزاؤها بروحانية الدين، وتُشرق أرجاؤها بلألأة القدسية، وتُطل جنباتها بأنداء الشرق، وتتراحب آفاقها للقلوب التي تختلف في العبادة ولكنها لا تختلف في المعبود، فتظلّ العرب أصحاب الفضل عليها في التاريخ، والسيادة عليها فى الواقع، والاضطلاع بحمايتها وحماية عُمارها، وإعلاء كلمة الله فيها، لا كلمة الدرهم والدينار، وتظل اليهود الذين لم يكتب التاريخ لهم مكرمة عليها ولا يدًا من يوم قال لهم موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} فارتدُّوا على أدبارهم إلى يومنا هذا، وتحفظ عليهم ما هم أحرص الناس عليه من حياة ومال.
نريد أن تبقى أرضًا مقدّسة مكملة لقدسية مكة ويثرب، لا يراد فيها إلحاد بظلم، ولا تقوم على أرضها جبرية حكم ولا جبْرية مال.
ونريد لها أن تبق- كما كانت- جزءاً طبيعيًّا من جزيرة العرب مكملًا لبقية الأجزاء، وما دامت القضية قضية أحلام، فإن لنا في جزيرة العرب لَحُلمًا ولكنه أقرب من حلم اليهود للتحقيق، وهو أن تصبح مملكةً واحدة، بدستور واحد، وثقافة واحدة، ونقد واحد، لاحدود تفرِّق، ولا إمارات تغرّب وتشرّق، ولا أمراء تمزّق أهواؤهم وتخرّق، ولم لا تكون دولةً واحدةً؟ وإن فيها لأمةً واحدة، لا تحتاج في تكثير سوادها إلى الطرّاق، وشذّاذ الآفاق، ولا تحتاج في تعمير بلادها إلى الواغل الذي يزحم، والوارش الذي لا يرحم، وما بيننا وبين ذلك اليوم إلا إفاقة رجل نائم وصحو جوّ غائم: وإن ذلك لقريب، إنه لقريب.. ومعاذ العروبة أن تقضي جريرة العرب، على جزيرة العرب.
ويريد اليهود أن يجعلوها وطنًا قوميًّا يحققون به الأحلام الدينية التي فتنت أحبارهم، والمطامع الدَّنية التي فتنت أغنياءَهم، وأن يجعلوها مهجرًا لهذه الفلول والأوزاع التي طردتها أوربا، ولفظتها أطراف الكرة من كل محتال، وكل دجال، وكل عابد للمال، تبرمًا بهم وضيق صدر منهم، وما في كل أولئك من يمت إلى السامية بعرق، فإننا نعلم أن هذه الحُميراء التي غمرت أرض فلسطين وتهافتت عليها مهاجرةً من أقاليم الشمال، البعيدة عن الاعتدال، ليست إسرائيلية النجار، وإنما هي أمشاج من أصول أوربية، متباينة الخصائص الجنسية والنزعات الوراثية، جمعت بينها المطامح المادية أولًا، والصهيونية ثانيًا، واليهودية الزائفة ثالثًا، فمنها السكسوني والجرماني، والسلافي واللاتيني، وقد تداعت على صوت الصهيونية إلى فلسطين تحمل معها تلك الخصائص الجنسية المتمرّقة، وتجمل مع تلك الخصائص العلم الأوربي، والفن الأوربي، والجشع الأوربي، والإلحاد الأوربي، والاستعمار الأوربي، والعتوّ الأوربي، وكل شيء عرفت به أوربا. وفي أوربا كل شيء إلا الخير، فإذا مدّت هذه الحميراء مدها، وضربت بجرانها في فلسطين، فهل يبقى شيء من القدسية لفلسطين؟ وهل يبقى شيء من الشمائل السامية في فلسطين؟ وهل تكون فلسطين يومئذٍ إلا جحيمًا يضطرم بالمادة التي شهدنا آثارها في أوربا، وشاهدنا من عملها في تخريب العقول، أضغاف ما شاهدنا من آثار الحروب في تخريب المدن، وهل تكون فلسطين يومئذٍ إلا رقعة من الشرق الطاهر، مكَّن فيها الصهيونيون للإلحاد والإباحية اللذين قضيا على أخلاق أوربا، وابتلت العالم منها بالداء العضال؟ ثم ماذا يكون مصير العرب بعدئذٍ في جزيرتهم الآمنة المباركة؟
ما أشأم الصهيونية على فلسطين، وما أعقّ صهيون لفلسطين، وما أضلّ ضلالَ اليهود إذ يَجْرون وراء خيال الوطن القومي فيجرُّون البلاء لفلسطين، ويُزهقون روح (سام) بمادة الغرب المسمومة، وسبحان من فاوت بين العنصرين في رقّة الحس، ودقّة الحدس، والأصل واحد، وسبحان من خص العرب بالعامري، واليهود بالسامري(١).
وما أجهل العرب إذا لم يعاجلوا هذه الجرثومة الصهيونية الخبيثة بالاستئصال! إنهم- والله- إن لا يفعلو تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
ونحن نريد فلسطين كاملة بالاستحقاق الذاتي، لأننا آخِرُ ورثتها، ولأننا واضعو اليد عليها بالحوز والتصرّف كما يقول فقهاء القانون، والصهيونيون يريدونها كذلك كاملةً بالحُلم والطمع والتمنِّي والتباكي والاحتيال والاستعانة بالأعداء، وشراء الضمائر الرخيصة ولكن ما بالُنا وما بالُهم؟
ما بالُنا حين ضُربت الأزلام على تقسيمها بيننا وبينهم غضبنا غضبة الحر الذي لا يرضى إلا بحقّه كاملًا غير منقوص، وثُرنا ثورة المظلوم الذي آثر أن يموت كريمًا على أن يعيش لئيمًا.
وما بالهم هلّلوا للتقسيم وطاروا به فرحًا ودقّوا له البشائر في كل أرض فيها يهودي وعرفنا من معارف الوجوه ما تخفيه مجاهل النفوس من ابتهاج وسرور، حتى لقد أنساهم الفرح كل ما يسمّى ذوقًا وكياسة ولطفًا ومجاملة مع عشائرهم العرب المسلمين الذين وفوا لهم في كل محنة نالتهم إلى الأمس القريب من أصدقائهم اليوم ضاربي الأزلام على تقسيم فلسطين.
إنما غضبنا وثرنا لأننا أصحاب حق لم نرضَ أن يشركنا فيه من ليس له فيه حق، وإنما رضوا وفرحوا لأنهم مبطلون، والمبطل الذي يعتمد على الحيلة والمكر يطلب الشيء كاملًا وهو يعتقد أنه مبطل فيكون ضميره أقوى خواذله، إن لم يكن أقوى عواذله، فإذا ظفر بشيء منه بحكومة باطلة قنع بالنزر ورضي باليسير، كالسارق يقنع بكل ما حصل في يده، لأنه لم يبذل فيه إلا الحيلة والاستغفال، وأهون بهما!
ولو أن مجلس اللصوص حكم لصهيون بتل أبيب وحدها وطنًا قوميًّا لرَضي صهيون بالحكم، وعدَّها غنيمة باردة، ولم ينقص فرحه عن فرحه اليوم بنصف فلسطين الأخصب الأطيب هذه واحدة، وأخرى يضمرها صهيون وقد عرفها الناس من امتداد أحلامه، ومأثورات المهوّسين من أسلافه، وهي أنه يحرص كل الحرص على وضع قدمه في أرض فلسطين باسم وطن قومي، ولو كان أفحوص قطاة، وباعتراف دولي ولو بشراء الأصوات، ويعتمد بعد ذلك على المطاولة والذهب واستجداء المعونة من (أهل الفضل والخير) كالإنجليز اليوم ولا أدري من… غدًا، وإن أحلام صهيون قد عرفها الناس وعرفوا أنها تمتدّ إلى جزيرة العرب كلها وإلى جزيرة سيناء، وقطعة من أرض مصر، ومن عاش آلاف السنين في أضغاث، ولم تتحقق له واحدة منها في شبر، حقيق بأن يعيش آلافًا أخرى من السنين في حواشي الأضغاث بعد أن تحققت له في مئات الأميال.
__________________
(1) العامري هو مجنون ليلى وهو رمز للرقّة واللطف ومثال للإنسانية السامية، والسامري هو الذي مكر باليهود في غيبة موسى للمناجاة وفتنهم بالعجل الذهبي، وقصته في عدة سور من القرآن وتفصيلها في سورة طه.
المصدر: جريدة «البصائر»، العدد 23، ١٦ فبراير سنة 1948م.