إن الإجابة الأولى وربما الوحيدة عن سؤال النهضة المُلحّ في مجتمعاتنا العربية هي التعليم، فنهضة حضارية لا سبيل إلى قيامها واستوائها إلا على قاعدة العلم والتعليم، لا كمرحلة دراسية مؤقتة يمر بها النشء إجبارياً للحصول على شهادات لا تسمن ولا تغني من جوع، ولكن كمنهجية حياتية وقيم أخلاقية يتم تنشئة الأجيال وتربيتهم على اكتسابها وحيازتها طوال حياتهم.
فالمنهج العلمي الذي حض عليه القرآن في أوامر التدبر والتفكر في السماوات والأرض واستلهام عبر الأولين وسنن الكون، بالإضافة إلى الأخلاق القائمة على تكريم الإنسان ككائن يقود الكون وإعلاء شأنه بما يسمو به عن سائر المخلوقات بالعقل والإيمان، هما قاعدتا العلم في القرآن الكريم.
التعليم يتضمن عدداً من القضايا والمسائل يجب أخذها في الاعتبار لصناعة نهضة قوية
يتضمن التعليم عدداً من القضايا والمسائل التي يجب أخذها في الاعتبار لصناعة نهضة قوية الأركان، فالتعليم يُقصد به المنهجية العلمية والعقلية العلمية بالأساس التي تُعلي شأن العلم كمكون اجتماعي وثقافي وحضاري وأسلوب للتنشئة والتربية ومنهجية للتفكير وطريقة للترقي الاجتماعي والوظيفي والنخبوي، مع الأخذ في الاعتبار التعليم في شكله العام والمهني والديني على حد سواء، وبجميع مراحله بما في ذلك مرحلة التعليم العالي والبحث العلمي، ومرحلة ما قبل الالتحاق بالمدارس لما لها من دور رئيس في تشكيل شخصية الأطفال وتكوين العقلية العلمية منذ سن مبكرة.
من ناحية ثانية، فإن الاتكاء على التعليم بشكل مطلق دون قيد أخلاقي يحمي بوصلة العلم ويوجهها فيما ينفع البشرية ويحفظ النوع الإنساني ويضمن الاستدامة البيئية، أمر مهم يحول دون الإفساد في الأرض ونشر الفوضى وإشاعة الدمار الذي خلفه سيادة مبدأ المادية اللاأخلاقي على التطور العلمي والاكتشافات العملية بما أوصل العالم إلى مشارف الانهيار البيئي والكوارث الطبيعية والتدمير والقتل والحروب وسباق التسلح دونما وازع أخلاقي أو ديني.
ومن ثم يجب الأخذ في الاعتبار ما شهدته الحضارة الإسلامية من مزج متفرد فيما بين الدين/ الأخلاق، والعقل/ العلم معاً؛ فأنتجت إرثاً ثقافياً حضارياً أطل نوره على الكون بأسره ونشر القيم الإسلامية السمحاء، ولا تزال منتجاته الحضارية واكتشافاته العلمية وأفضاله على سائر الحضارات التالية له محفوظة ومشهود بها.
التعليم منهج عملي يذكي مجموعة من القيم والمبادئ في عقول ووجدان النشء والشباب
المنهجية العلمية
ويتكئ التعليم على المنهج العملي الذي يذكي مجموعة من القيم والمبادئ في عقول ووجدان النشء والشباب التي تمكنهم من بناء مستقبل أفضل لأمتهم، ومن أهم مبادئ المنهجية العلمية:
– إعلاء قيمة العقل باعتباره المزية التي فضَّل بها الله الإنسان عن سائر مخلوقات الكون، عبر تشجيع التفكير والتدبر والحض على النظر العقلي.
– الانضباط العلمي الذي يضمن تتبع خطوات ومبادئ متفق عليها بين العلماء والمختصين لتنظيم شؤون الإبداع العلمي بما يلائم كل حقل، ويعمل على تنظيم وضبط البحث العلمي.
– التفكير المنطقي المتسلسل المنظم القادر على الاستقراء والاستنباط وربط المقدمات بالنتائج والتدرج من الخاص إلى العام والعكس.
– التجربة العملية؛ وتتضمن القدرة على إخضاع الفروض التي تمت ملاحظتها لاختبار تجريبي يؤكد النتائج التي تم التوصل إليها، وتتضمن التجربة إمكان التوصل إلى نتائج عكسية؛ ومن ثم تتطلب انفتاحاً عقلياً من جانب الباحث لقبول النتائج وإن خالفت توقعاته أو قناعاته.
النهوض بالعقلية العلمية يتطلب استنهاض مجموعة القيم التي تدعم مكانة العلم في النفوس
ويتطلب النهوض بالعقلية العلمية استنهاض مجموعة من القيم التي تدعم مكانة العلم في نفوس أبناء الأمة، وهي القيم التي تعالج كل منها مرضاً من أمراض التخلف الاجتماعي والحضاري، وتحول دون تسرب تلك الأمراض الثقافية إلى ساحات العلم والتعلم، ومن أهم تلك القيم التي تُعزز العقلية العلمية:
– الحرية: لا يقبل الإبداع العلمي القيود والتضييق والتحجيم، فالعقلية العلمية تحتاج إلى الإبداع الذي لا يتأتى له التحقق من دون إطلاق حرية الفكر وحرية البحث والفهم، وحرية الوصول إلى المعلومات، وحرية التفكير والاطلاع، وحرية التعبير.
– الموضوعية: التي تعني التركيز على الموضوع بدلاً من الشخصنة والذاتية، وتوظيف القضايا والأفكار بشكل غير علمي لإثبات انحيازات مُسبقة، فالموضوعية هي الضد من التحيز الأعمى وتسييس الأفكار أو إخضاع الحقائق للمكايدات بدلاً من الدراسة الموضوعية والفهم المحايد.
– الانفتاح: يعالج الانفتاح العلمي الجمود والانغلاق الذي يسيطر على المجتمعات المتأخرة علمياً وثقافياً، التي ترفض الاطلاع والفهم على أي أفكار تخالف معتقداتها الخاصة ونسقها القيمي خوفاً من انهيار ذلك النسق؛ وهو ما يدفع المجتمعات المتخلفة إلى الانقطاع عن مواكبة تطور الأمم الأخرى والتموضع في موقع ماضوي يمجد الذات ويشيطن الآخرين، ولا سبيل إلى تحقيق نهضة علمية وترسيخ عقلية قوية دون انفتاح على منجزات واكتشافات الحضارات الأخرى ودراستها بتمعن وإنصاف دون موقف مسبق أو انغلاق بدافع أيديولوجي أو مذهبي.
– التعاون: تفرض طبيعة التخصصات العلمية المتفرعة والمتشعبة تحقيق تعاون وتكامل شامل ومنهجي ومنظم فيما بين الفروع العلمية في الحقل العلمي الواحد من ناحية، وفيما بين الحقول العلمية وبعضها بعضاً، وهو ما يتطلب إشاعة قيمة التعاون العلمي التي تحارب أمراضاً مجتمعية وثقافية خطيرة جعلت من النخب مجرد مجموعات من الجزر المنعزلة فيما بين الدارسين والباحثين من الحقول العلمية المختلفة.
استعادة مكانة العلم تحتاج إرادة سياسية ومجتمعية تزلل التحديات والعقبات التي تعرقل مسيرته
– الانضباط: يسهم الانضباط العلمي في إشاعة قيم التنظيم والتنسيق والمراجعة والمراقبة العلمية الصارمة والمنضبطة عبر قواعد يتم ترسيخها من جانب الأساتذة والعلماء والمتخصصين في سائر أفرع العلم، بما يضمن الحيلولة دون أمراض السرقة العلمية والنسخ والانتحال والسطحية والتحيز وغيرها.
استعادة مكانة العلم
وإذا ما ابتغينا إيفاء العلم مكانته التي يستحقها في المجتمع والدولة، فإن إرادة سياسية ومجتمعية يجدر أن تتوافر لكي تزلل للعلم كافة العقبات التي تعرقل استعادة مكانته في قيادة المجتمع، عبر عدد من الخطوات:
– التعاطي مع التعليم باعتباره عملية استمرارية ينتهجها الإنسان طوال مسيرته الحياتية، عبر تثقيف ذاتي وتطوير في المهارات والقدرات واكتساب العلوم والمعارف، باعتبار ذلك منهج حياة وغاية مستدامة لا تنتهي في مرحلة معينة أو سن محددة.
– استعادة شغف القراءة لدى الأجيال الناشئة بعدما تآكلت ثقافة القراءة لمصلحة الانخراط في وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تصنع ثقافة ولا تُكسب علماً، بما أسهم في تسطيح الأجيال الجديدة.
– إعادة الاعتبار للعلم لا كشعارات على جدران المدارس وأغلفة الدفاتر، ولكن كتقدير من جانب السلطات والحكومات للنابغين والموهوبين والنبهاء، واعتبار الكفاءة العلمية والعملية المعيار الوحيد للترقي الوظيفي والاجتماعي.
– تسليط الضوء على الرموز الثقافية والعلمية بديلاً عن تصدير مشاهير الفن والغناء والرقص باعتبارهم النخبة، عبر إعلام مسؤول يدرك خطورة صناعة وتنشئة الأجيال التي تقتدي بالمتصدرين والمشاهير في المجتمعات الذين باتوا اليوم منحصرين في فئات معينة بعيدة كل البعد عن العلم والثقافة.
وأخيراً، فإن النهضة العلمية تتطلب جهداً جهيداً من سائر المتخصصين والعلماء في الأمة عبر حوار شامل يقف على أصول الداء، ويعترف ابتداء بالمشكلات ويقر بتواجدها، ويتباحث في أهمية تجاوزها وطرائق ذلك التجاوز، وأبرز الأمراض المجتمعية التي تعرقل نهضة التعلم وترسخ الجهل وتقاوم التغيير، وقبل كل ذلك يتطلب النهوض بالتعليم إرادة سياسية حقيقية ترعى ذلك النهوض وتدعمه مادياً ومعنوياً.