تعددت مظاهر الحرية الدينية في الإسلام، حتى شملت حرية الاعتقاد الديني، وممارسة الشعائر التعبدية، وحرية المناقشات الدينية، وحماية دور العبادة، ويتبين هذا فيما يأتي:
أولاً: حرية الاعتقاد الديني:
لا يجوز لمسلم أن يُرغم أحداً على ترك دينه والدخول في الإسلام، كما لا يجوز لغير المسلم أن يمارس الضغوط التي تُجبِر المسلمَ على ترك دينه، فحرية الاعتقاد الديني مكفولة للجميع على السواء، إذ الحرية حقٌّ لكلِّ إنسان اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا وممارسة.
وإن حرية الاعتقاد الديني لها أهميتها في بناء الفكر السليم، وضرورتها لتحقيق السلوك القويم، حيث تُعتَبر حريّةُ العقيدة وما يرتبط بها من حقِّ المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساواة التامة في الحقوق والواجبات حجر الزّاوية في البناء المجتمعي، فلا يجوز الانتقاص من حق المواطنة بسبب الاعتقاد؛ لأن المجتمع الإسلامي مفتوح لكل أفراده من جميع العقائد والأجناس والألوان بشرط إعلان الطاعة للدولة الإسلامية والالتزام بدستورها العام.
فلكلِّ فردٍ في المجتمع أن يعتنق من المبادئ ما يشاء، دون أن يمس حق أحد في الحفاظ على عقيدته، وفي هذا دعوة إلى حماية المجتمع من الفوضى، من غير إخلال بحرية الأفراد في الاعتقاد وحمايتها من أي اعتداء، حيث إن «المنهج الإسلامي يقرر أن أهل كل حضارة يعتنقون من العقائد ما شاؤوا من غير حرج، ودون إرهاق نفسي، بل إن الإسلام قد ذهب به احترامه للحرية إلى حماية العقيدة الدينية لمخالفيه من أن يُعتدى عليها»(1).
ففي التطبيقات الإسلامية المتتابعة نجد أن النظام الإسلامي يكفل لأتباعه جميعاً حرية اختيار دينهم وممارسة شعائرهم، حيث كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، إلا من ظلم وأثم(2)، كما فعل ذلك أيضاً سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه في عهد منه لنصارى نجران ببلاد اليمن، وكذلك سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عهد منه لأهل إيلياء ببيت المقدس(3).
وعندما فتح المسلمون مصر قرر سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه أن يمحو كل آثار الضغط والإكراه عن أهل مصر الأقباط الذين تعرضوا لضغوطات شديدة من الروم بسبب مخالفتهم في المذهب الكنسي، فأرسل عمرو رسالة إلى البطريك القبطي بنيامين يدعوه فيها للعودة إلى كنيسته بعد أن بقي متخفياً لفترة طويلة من الزمن، حيث استقبله عمرو بكل حفاوة ومنحه صلاحية إدارة شؤون طائفته(4).
وقد عبر المسيحيون عن شكرهم وتقديرهم للمسلمين الفاتحين بسبب تقريرهم حرية الاعتقاد الديني قائلين: يا معشر المسلمين، أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، وأنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا(5).
وهكذا سار الخلفاء عبر العصور يقررون حرية الاعتقاد الديني، فيتركون أهل كل دين وما يدينون، ويحترمون عقائدهم، وهنا يتبين أن حرية الاعتقاد الديني تتمثل في أحقية كل فرد في اعتناق ما يشاء من العقائد وحمايته بشرط المحافظة على النظام العام للدولة الإسلامية.
ثانياً: حرية ممارسة الشعائر التعبدية:
فلكل فرد في المجتمع أن يعتقد ما يشاء، وأن يمارس شعائره الدينية بكل حرية، بشرط ألا يؤدي ذلك إلى اضطراب في المجتمع الذي يعيش فيه، حيث إن الأصل في الحرية الدينية أن تضمن الدولة لأفرادها حق ممارسة شعائرهم بأن تتخذ من التدابير اللازمة ما يحقق ذلك حتى لا تتحول الحرية إلى فوضى من شأنها أن تهدد أمن المجتمع وسلامته.
وقد حفل التاريخ الإسلامي بالعديد من التطبيقات والمواقف التي كفلت حرية الممارسة للشعائر الدينية، حيث سمح الرسول صلى الله عليه وسلم لوفد نصارى نجران بإقامة صلاتهم في مسجده؛ فقد دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وفد نجران بعد صلاة العصر، فحانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوهم»، فاستقبلوا المشرق، فصلوا صلاتهم(6).
ويضاف إلى ذلك أن حرية ممارسة الشعائر الدينية في الإسلام ليست مكفولة في وقت السلم فقط، بل في وقت الحرب أيضاً، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: «اخَرجوا بسم الله، تقاتلون في سبيل الله، من كفر بالله، لاَ تَغْدِروا، ولا تَغُلُّوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تقتلوا الوِلْدَان، ولا أصحابَ الصَّوامع»(7).
كما أوصى سيدنا أبو بكر رضي الله عنه جيش سيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنه قائلاً: وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له(8)، وعندما خرجت الجيوش الإسلامية لفتح البلاد، مرّ سيدنا خالد بن الوليد ببلاد عانات (العراقية)، فخرج إليه أهلها وطلبوا منه الصلح، فصالحهم على ألا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة، وعلى أن يضربوا نواقيسهم إلا في أوقات الصلوات ويخرجوا صلبانهم في يوم عيدهم، فأعطاهم ذلك(9)، وهنا يتبين أن الناس في ظل النظام الإسلامي أحرار في ممارسة الشعائر الدينية ما لم يؤد ذلك إلى إثارة الفتنة في المجتمع.
ثالثاً: حماية دُور العبادة:
تعتبر الحماية التامة لدُور العبادة من مكملات التصور العام للحرية الدينية، إذ لا يمكن أن تقتصر الحرية الدينية على حرية الاعتقاد وإقامة الشعائر دون حماية للأماكن المخصصة لإقامة الشعائر، بل إن حمايةَ دُور العبادة، من معابدَ وكنائسَ ومساجدَ، واجبٌ تَكفله كل الأديان والقيم الإنسانية والمواثيق والأعراف الدولية، وكلُّ محاولة للتعرّضِ لدُورِ العبادة، واستهدافِها بالاعتداءِ أو التفجير أو التهديم، هي خروج صريح عن تعاليم الأديان، وانتهاكٌ واضح للقوانين الدولية.
ونعتمد في هذا القول على ما تقرر في الإسلام من وجوب الحماية التامة لأماكن إقامة الشعائر الدينية، حيث قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) (الحج: 40)؛ أي: ولولا أن الله تعالى أباح للمؤمنين قتال المشركين؛ لعاث المشركون في الأرض فساداً، ولهدموا في زمن موسى، وعيسى عليهما السلام أماكن العبادة الخاصة بأتباعهما، ولهدموا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم المساجد التي تقام فيها الصلاة(10).
والناظر في الآية السابقة يتبين له أن هذا النص يفيد أمرين؛ الأول: تمكين أهل كل دين من عبادتهم ببقاء أماكن العبادة لَا تُهدَم ولا تُمَس، والثاني: منع هدم معابد أهل الذمة(11)، فقد أوجب الله تعالى الجهاد من أجل حرية ممارسة الشعائر التعبدية وحماية أماكن العبادة، وفي السُّنة النبوية وتطبيقات الصحابة الكرام من الأقوال والأفعال والوثائق ما يؤكد حماية دُور العبادة كما تم بيانه في العنصر السابق، ويضاف إليه قول الخليفة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه للفاتحين: «لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار..»(12)؛ أي حافظوا على أماكن العبادة من أي اعتداء، فالإسلام يضمن لمخالفيه حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، كما لا يسمح بالاعتداء على معابدهم ومقدساتهم، بل يأمر ببذل الأرواح في حمايتها إذا لزم الأمر.
رابعاً: حرية المناقشات الدينية:
ارتكز النظام الإسلامي في البناء الديني للفرد والأمة على قاعدة الإقناع والاقتناع لا الإكراه والإجبار، ولذلك قرر حرية المناقشات الدينية، حيث أمر الله سبحانه وتعالى الدعاة أن يجادلوا بالتي هي أحسن، فقال: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)، وقال أيضاً: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت: 46).
فالإسلام يأمر أتباعه بالدعوة إليه من خلال الحوار بأسلوب حسن، كما فتح المجال أمام المخالفين للدفاع عن عقيدتهم وإقامة الدليل عليها، حيث قال سبحانه: (قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) (الأنعام: 148)، وقال أيضاً: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (النمل: 64)، وقال سبحانه: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (سبأ: 24)، إنه يُغرِي الكفار بالمناقشة والإتيان بالدليل على صحة دينهم، فيتظاهر جدلاً بكونه لا يقطع بأنه على حق وأنهم على باطل، وفي هذا دليل على دعوة الإسلام إلى المناقشة الدينية الحرة، بحيث يبدي كل طرف رأيه ويدلل عليه ويدعو الآخرين إليه، فإذا لم يصل المتحاورون إلى نتيجة فلا مجال للصراع أو النزاع، بل يكتفي كل فريق بما عنده في ظل السلام والوئام، عملا بقوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون: 6).
والناظر في هذه المظاهر يجد أنها قد اعتمدت على ما تقرر في الشرع الإسلامي من حرية المناقشات الدينية، والدعوة إلى تبني ثقافة الحوار الحسن، وتجنب الجدل العقيم، واحتِرام عقائد الآخرين، والتزام أخلاقيات الحوار، وضرورة اجتناب التكفير والتخوين، واستغلال الدين، واستخدامه لبعث الفُرقة والتنابز والعداء بين المواطنين، مع اعتبار الحث على الفتنة الطائفية والدعوات العنصرية جريمة دينية ووطنية.
______________________
(1) المجتمع الإنساني في ظل الإسلام، محمد أبو زهرة، ص 52.
(2) السيرة النبوية، ابن هشام (1/ 501).
(3) مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، محمد حميد الله الحيدر آبادي، ص 176.
(4) الأوضاع القانونية للنصارى واليهود في الديار الإسلامية حتى الفتح العثماني، حسن الزين، ص 57.
(5) الإسلام والمساواة بين المسلمين وغير المسلمين في عصور التاريخ الإسلامي وفي العصر الحديث، عبدالمنعم بركة، ص 186.
(6) زاد المعاد، ابن القيم (3/ 549).
(7) أخرجه أحمد في مسنده بسند حسن (2728).
(8) تاريخ الطبري (3/ 227).
(9) كتاب الخراج، أبو يوسف الأنصاري، ص 146.
(10) التفسير الوسيط للقرآن الكريم، د. محمد سيد طنطاوي، (9/ 318).
(11) زهرة التفاسير، محمد أبو زهرة (9/ 4993).
(12) الأموال، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم الهروي (1/ 123).