الهجرة المباركة من أهم أحداث السيرة النبوية، إن لم تكن الحدث الأهم على الإطلاق، التي جاءت كما قال العلماء كفارقٍ بين عهدين وفصلٍ بين حياتين ومسيرتين، لهذا كانت مليئة بالأحداث والتخطيط والمواقف ما حدثنا عنها القرآن الكريم والسُّنة النبوية المشرفة، وكذلك انبرى يكتب عنها المتخصصون ويجمع شواردها السيريّون.
بل إني أقول: إن الهجرة في حد ذاتها بما سبقها من تمهيد وتخطيط وما تناولته من مواقف وأحداث ووقائع، وما تبعها من رسم ونظام، يعد منهج حياة شاملاً ونظام دولة مكتمل الأركان، ولو أن كل ذي تخصص أراد أن يتلمس فيها نهجاً وزاوية ورؤية شاملة يرى فيه فنه ويقعد من خلالها علمه ما كنت بهذا مبالغاً ولا بعيداً عن حقيقتها وواقعها، فالتربويون وما يبحثون فيه من قواعد التربية وأسسها وطرق التعامل والتواصل والتدريس، والاجتماعيون وما يصدون من قواعد هذا العلم ويبنون عليه من بناء الحضارات والدول والأنظمة ومكونات المجتمعات، وعلماء النفس والفلسفة والمنطق وتخصصات الشرع والعربية وغير ذلك كل يدلي دلوه في معينها ليستسقي من فيضها ما يقعد لفنه ويصحح لمشربه ويؤطر لتخصصه.
ولذلك فقد جاء هذا المقال ليلقي الضوء على فن مما يفيض منبعها به ويستقي منه أصحابه في بيان مقصده ومقدماته؛ وهو فقه الأولويات الذي يعد من أهم أنواع الفقه الإسلامي، وسجل لنا القرآن من أمثلته والسُّنة من نماذجه الكثيرة من ذلك قوله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (التوبة: 19)، فهو علم يضبط حركة العاملين في الطريق إلى الله تعالى ويرسم لهم سبل الفوز بما أعده للصالحين من خيري الدنيا والآخرة، على بصيرة وتنظيم ولقد كان رائده الأول هو رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
لذا، فقد جاءت الهجرة المباركة أيضاً بزاوية ضابطة لأولويات المسلم بشكل عام والمهاجر الأول ومن سار مساره على مدار الزمان والأماكن بشكل خاص؛ ما يجعلنا نقف على وجه من وجوه هذا الضبط، وبيان لمنحنى الرسم الصحيح لأولويات التكوين والطريق من هذا ما يلي:
– أولوية المعتقد ورؤية الله في التكوين والبقاء والانتقال:
إن العامل المشترك الذي دفع الجميع للهجرات المتوالية في زمن النبوة بدءاً من هجرة الحبشة ومروراً بالهجرة النبوية المباركة وما بعدها مما رسم على منهاجها هي أولوية الحفاظ على المعتقد على غيره، وتقديم الآخرة على الدنيا، فلا يتقدم عليهما شيء في التكوين الإنساني الإسلامي ولا يؤخران في الرتبة بقاء وانتقالاً.
ولذلك ما تجد آية تتحدث عن الهجرة ولا حديثاً يساق في بيانها إلا ربط بالله اعتقاداً ورؤية، من ذلك قوله تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) (النساء: 100)، (فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي) (آل عمران: 195)، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم مقيداً الهجرة الحقيقة بالله: «فمن كانت هجره إلى الله ورسوله..»، ولقد قال أبو بكر لابن الدغنة لما رآه خارجاً من مكة مهاجراً قبل الحبشة فسأله عن سبب هجرته فقال له: «أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي» (رواه البخاري).
– أولوية الاجتماع الآمن على التفرد والوحدة المضطربة:
الاجتماع الآمن ولو بترك الأوطان مقدم على التفرد المخيف والمضطرب الملازم للوطن، وهو أمر حتمي وجوبي لا اختيار فيه لمن ملك أمره، فلقد قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً) (النساء: 97)، ولذلك تكون في خلدهم أهمية الهجرة ووجوبها على الجميع وإن اختلفت منعة بعضهم وقوية شوكتهم، إذ لم يكن الجميع على مسافة واحدة من الخوف والاضطراب؛ لذا هاجر الجميع القوي والضعيف والغني والفقير والحر والمولى والقرشي والعجمي لتحقيق هذا الاجتماع وتقوية هذه اللحمة، وقد شاع هذا الفهم عندهم.
فعند سعيد بن منصور من حديث صفوان بن أمية لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة قال له: «مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا وَهْبٍ؟»، قَالَ: قِيلَ: إِنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، قَالَ: «ارْجِعْ أَبَا وَهْبٍ إِلَى أَبَاطِحِ مَكَّةَ، أَقِرُّوا عَلَى مَسْكَنِكُمْ فَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»
– أولوية العلم بالشرع قبل البدء بالحركة والعمل:
إذ إن أي حركة يقوم بها المسلم بشكل عام والمهاجر بشكل خاص مبانها على العلم بمداها كيفاً وكماً، حتى لا يقع الجهد فرطاً والعمل مخالفاً، وشتان بين مهاجر يسبق علمه عمله وآخر يسير بعمل لا معرفة لتأصيله ولا دراية بصحته، وخاصة الذي ينزل بيئة جديدة تدفعه لمستحدثات تحتاج لعلم يرسم وعالم يبين.
فعن البراء قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم؛ فجعلا يقرئاننا القرآن: وعند البيهقي أن هذا كان مطلباً أنصارياً عقب العقبة الثانية قال: «وَإِنَّمَا كَتَبُوا إِلَيْهِ: أَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ فَشَا فِينَا، فَابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ يُقْرِئْنَا الْقُرْآنَ، وَيُفَقِّهُنَا فِي الْإِسْلَامِ وَيُقِيمُنَا لِسُنَّتِهِ وَشَرَائِعِهِ، وَيَؤُمُّنَا فِي صَلَاتِنَا، فَبَعَثَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ فَكَانَ يَنْزِلُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أسعد بن زرارة، وكان مُصْعَبُ يُسَمَّى بِالْمَدِينَةِ الْمُقْرِئَ، وَكَانَ أَبُو أُمَامَةَ يَذْهَبُ بِهِ إِلَى دُورِ الْأَنْصَارِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُفَقِّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ».
وهذا دليل على تفطن المجتمع الأول المهاجر والمقيم من أولوية العلم التي تسبق العمل لترسم طريقه الصحيح، وتجني ثمرته المرجوة، وتحافظ على المسير الجماعي بدرب متحد وغاية منشودة.
– أولوية الرصيد الإسلامي على الرصيد الشخصي:
أجمل ما أفرزته الهجرة أن الجميع لم يكن فقط مقصده اختيار الأرض الآمنة للراحة والدعة والبناء الشخصي الدنيوي، بل كان الهدف العمل للإسلام والسعي ببناء دولته العظيمة التي تبدأ من أول يوم تطأ أقدامهم مع نبيهم هذه الأرض، وقد رأينا ذلك في تخطيط محكم وفريد مبني على الأولويات العظيمة، فما المؤاخاة، وبناء المسجد، ووثيقة المدينة، وإقامة العهود، وتنظيم الصف، وبث الدين وتعليم الجديد، إلا دليل على ما يرصده الجميع من أجور ونفع يكتب في رصيدهم الحياتي والأخروي بخدمة هذا الدين ونبي المسلمين، على ما يقصدونه من أمور شخصية أو بناء دنيوي محض.
إن هناك أولويات أخرى أذكرها اختصار:
– أولويات الضروريات من حفظ ما يجب حفظه من كليات على الكماليات والحاجيات.
– أولويات درء المفاسد عن الدين والنفس والعرض على جلب المصالح.
– أولويات أخوة الدين على أخوة الوطن والنسب عند التعارض.
– أولويات الالتفاف حول المرجعية على البعد عنها دون ضرورة لذلك.
– أولويات المعايشة الجماعية للبلاء على الفردية التي لا يؤمن معها بقاء.
– أولويات الحمل والدعم على الترك والأنا.