ظهور الإلحاد المعاصر في الشرق، ظلال لم يكتب لها البقاء، فلم تستطع أن تضرب بجذورها في تلك التربة التي شكلتها الأديان، وأتاح مناخ الحريات الذي شهدته مصر في مطلع القرن العشرين، لتلك الأفكار أن تعلن عن نفسها بجرأة دون خشية من عقاب، أو تهديد لحياتها أو أرزاقها، فجاءت فجة صادمة، وكان رد الجماهير عليها هو التجاهل والإعراض، وإتاحة الفرصة لها لتموت بلا ضجيج ولا ذاكرة ولا تأييد.
«الداروينية» قبل الإلحادية
كان التعرف على أفكار تشارلز داروين ونظريته حول التطور البداية الحقيقية لظهور الإلحاد المعاصر في العالم الغربي، ثم انتقل صداه إلى المنطقة العربية، تنصُّ نظرية داروين التي نشرها عام 1859م على أنَّ جميع أنواع الكائنات الحية تنشأ وتتطور من خلال عملية الانتقاء الطبيعي للطفرات الموروثة التي تزيد من قدرة الفرد على المنافسة والبقاء على قيد الحياة والتكاثر، ومع العام 1860م صك عالم الأحياء الإنجليزي توماس هنري هكسلي مصطلح «الداروينية»، ليعبر عن فلسفة التطور، وكان «البقاء للأصلح» شعار «الداروينية» الأشهر.
أما «الداروينية العربية»، فكان أول من تكلم بها هو الطبيب والأديب اللبناني شبلي شميل (ت 1917م)، ثم إسماعيل مظهر الذي ترجم كتاب داروين عن أصل الأنواع، ثم سلامة موسى، وغيرهم، ومهدت هذه الأصوات للإلحاد، وكانت مجلة «المقتطف» التي أسسها فارس نمر، ويعقوب صروف، وجريدة «الشمس» وصاحبها إسبر الغريب من أهم المنابر الصحفية التي عرضت نظرية داروين وأفكاره، ونشر شميل كتابه «فلسفة النشوء والارتقاء» عام 1910م، داعياً إلى الإلحاد، وإلى التسامح في حال المخالفة في الرأي، وإطلاق حرية الفكر، والشجاعة في القول، كما وضع اللبناني حنا نمر كتاباً عن «الداروينية»، وكذلك سلامة موسى.
في رسالتها العلمية «قراءة داروين في الفكر العربي» عام 1860 – 1950 للباحثة مروة الشاكري التي نشرتها بالإنجليزية عام 2013م، ثم ترجمت للعربية عام 2017م، أكدت أن مجلة «المقتطف» التي صدرت عام 1876م ساهمت في نشر «الداروينية»، من خلال اهتمامها بالكتابات العلمية وتقديمها للجمهور، ففي تلك الفترة نشأت طبقة وسطى مثقفة، وازداد الطلب على الصحافة، وكان حجم النسخ المباعة من كل الصحف العربية في مصر حوالي 180 ألف نسخة، وأدى ذلك إلى انتشار الكثير من الأفكار والنظريات العلمية الحديثة، ونشوء جدالات حولها، ومع العام 1878م ظهر النقاش حول «الداروينية» من خلال نقل السجالات الفكرية والثقافية الأوروبية حول النظرية إلى العالم العربي، حتى جاء شبلي شميل فتبناها عربياً.
وقد اشتبك التيار الإصلاحي مع نظرية «داروين»، وأسماها بـ«الفكر النشوئي»، واتخذ بعض المصلحين موقفاً مناهضاً لـ«الداروينية»؛ نظراً لأن غالبية الداعين والمروجين لها من المسيحيين من خريجي أو معلمي الكلية السورية الإنجيلية، فرأى التيار الإصلاحي الإسلامي فيها وجهاً تبشيرياً يتستر بالعلم لترويج أفكاره، لكن الوجه الآخر هو ازدياد حديث التيار الإصلاحي عن العلاقة بين الدين والعلم، خاصة مع ظهور الإلحادية على ألسنة «الداروينيين العرب».
ورغم أن شميل أعلن عن إلحاده صراحة، فإنه جمعت بينه وبين الشيخ محمد رشيد رضا علاقة صداقة واحترام، أتاحت نشر رسالة لشميل يمدح فيها القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم، لكن نظر إليه كرجل عظيم، بعيداً عن النبوة، ومما جاء فيها: أنت تنظر إلى محمد كنبي وتجعله عظيماً، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنا في الاعتقاد (الديني أو المبدأ الديني) على طرفي نقيض، فالجامع بيننا العقل الواسع، والإخلاص في القول، وذلك أوثق بيننا لعرى المودة.
وعندما مات شميل عام 1917م، رثاه رشيد رضا بمقال ذكر فيه الكثير من مآثره، مؤكداً كذلك إلحاده، ومما قاله: كان شبلي فذًّا نادر المثل في مجموع علومه وأعماله وأفكاره وأخلاقه، والذي يحملنا على ترجمته أنه كان من طلاب الإصلاح المدني والتجديد الاجتماعي المخلصين، ثم قال: كان أول من نشر مذهب دارون باللغة العربية وانتصر له وناضل دونه؛ إذ كان رجال الدين ولا سيما الكاثوليك الذين نشأ شميل على مذهبهم يعدون هذا المذهب من دعائم الكفر، ولم يكتف الرجل بذلك بل كان يصرح قولاً وكتابة بالتعطيل والإلحاد، ولم يتجرأ أحد قبله على ما تجرأ عليه من ذلك فيما نعلم مع كثرة الذين زاغت عقائدهم من المتعلمين على الطريقة الأوروبية الحديثة.
ثم يلفت رشيد رضا إلى موقف المسلمين من إلحاده قائلاً: وأما المسلمون فلا يرون مروقه من عقيدته التي نشأ عليها مبعدًا له عنهم؛ لأنها ليست عقيدتهم فهو في نظرهم طبيب وعالم اجتماعي غير مسلم، ولكنه أقرب من غيره من المخالفين لهم إلى التساهل والإنصاف لحريته واستقلال فكره.
التحدي بالإلحاد
تعد معركة «لماذا أنا ملحد؟» من أهم المعارك الثقافية الفكرية حول الإلحاد في الشرق، وهي رسالة كتبها إسماعيل أدهم في العام 1937م، وأصدرتها إحدى المجلات في كتيب صغير، وأثار ردود علمية وفكرية، يقول أدهم: أنا ملحد ونفسي ساكنة لهذا الإلحاد ومرتاحة إليه، فأنا لا أفترق من هذه النّاحية عن المؤمن المتصوّف في إيمانه، لقد كان إلحادي مجرّد فكرة تساورني، ومع الزّمن خضعت لها مشاعري فاستولت عليها، وانتهت من كونها فكرة، إلى كونها عقيدة.
حاول أدهم في رسالته أن يرد على محاضرة للطبيب الشاعر أحمد زكي أبو شادي نشرها في نهاية عام 1936م، بعنوان «عقيدة الألوهية»، تحدث فيها عن توافق بين العلم والدين، ومما قاله أبو شادي: فعقيدة الألوهة في ضوء الإسلام لا تخالف العلم السليم، ولا الإحساس النفساني النقي، وهي بعيدة كل البعد عن الخوف أو الخرافة أو الجهل، أما أدهم فسعى في رسالته لتأسيس نشأة الوجود على ما أسماه، بـ«قانون الصدفة»، وهو منطق هزيل؛ لذا جاءت الردود المتتابعة على الكتاب، ومنهم أبو شادي في كتيب بعنوان «لماذا أنا مؤمن؟» استهله بالقول: للإسلام ثلاث مزايا عظيمة من سكت عن ضياعها فقد عاون على ضياع الإسلام نفسه: وراثته لحسنات الديانات السابقة وقيامه على العقل والعلم، ديمقراطيته المتناهية، تخليه عن نظام الكهنوت والقساوسة.
وكتب محمد فريد وجدي، رئيس تحرير «الأزهر»، مقالاً بعنوان «لماذا هو ملحد؟»، أكد فيه حق الاختلاف، مؤكداً أن المجاهرة بالإلحاد وإن كانت تؤذي شعور المؤمنين، فإنها لن تنال من عقيدة الإسلام شيئاً، إلا أن أهم رد على إسماعيل أدهم جاء من العلامة الشيخ مصطفى صبري، أكبر علماء الدولة العثمانية، الذي استفزته الرسالة، ليصدر بعدها أهم كتبه وهو «موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين» الذي صدر في 4 أجزاء، كما كتب د. محمد جمال الفندي، وهو من كبار علماء الفلك كتابه «لماذا أنا مؤمن؟».
ونشير هنا إلى ما كتبه الناقد رجاء النقاش عن شخصية أدهم في كتابه تأملات في تاريخ الإنسان، حيث شكك في حصوله على درجة الدكتوراة في الرياضيات، وشكك في إتقانه للغات الأجنبية، وأكد أن أدهم أعطى صورة مغايرة لنفسه، وأنه كان يلقى إهمال الناس، ويعاني شظف العيش، ولما فشل إبهار الناس بكذبه قرر أي يتحداهم بإلحاده، يقول رجاء النقاش: الكثير لا يعرف حقيقة الرجل حتى الآن، وأن القصص التي كتبت عن حياته هي أقرب للخرافات، فلا يوجد دليل يثبتها إلا رواية أدهم نفسه.