قال أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بجامعتي القاهرة وقطر د، عماد عبداللطيف: إن خطاب المقاومة الفلسطينية تمكن من مواجهة خطاب التلاعب الصهيوني المدعوم من الغرب الاستعماري بأسره، معتبرًا أن أبا عبيدة، المتحدث الرسمي باسم «كتائب القسام»، هو «المعادل الخطابي» لبندقية «الغول» وقذائف «الياسين» وقنابل «شواظ» المتفجرة.
ورأى أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب أن أبا عبيدة ربما يكون أشهر خطيب عربي في الوقت الراهن، وأن هذا يظهر في معدل انتشار خطبه وتداولها وأثرها في المتلقين، حتى أصبحت خطاباته حاسمة في بناء إدراك للأحداث والموقف منها؛ معتبرًا أن صوت أبي عبيدة يمثل نقطة نور بفضل الحزم والعزة والكبرياء.
في هذا الحوار مع د. عماد عبداللطيف، نتعرض لقضايا كثيرة تتصل بخطاب المقاومة وقدرته على التصدي لخطاب الاحتلال الصهيوني، وعلى تقديم خطاب إنساني يجتذب شرائح واسعة داعمة للقضية الفلسطينية العادلة ومقاومتها الباسلة.
لكم اهتمام بتحليل خطاب المقاومة، كيف ترى أهمية ما توجهه المقاومة من خطابات لا سيما في أثناء الحرب؟
– مقاومة الاحتلال نضال متعدد الساحات، تجري معاركه في الخنادق والأنفاق كما تجري في شاشات التلفاز وصفحات «فيسبوك» وغرف التفاوض، الغاية الأساسية لأي احتلال استيطاني هو هزيمة النفوس والعقول، والاستسلام للغازي؛ إما بالذوبان فيه، أو الموت، أو الرحيل، ولتحقيق هذا الغرض يستهدف الاحتلالُ أجساد أصحاب الأرض بالبنادق والقنابل والصواريخ، ويستهدف أرواحهم ونفوسهم بالكلمة والصورة.
خطاب المقاومة واجه خطاب التلاعب الصهيوني المدعوم من الغرب الاستعماري
الخطاب إذًا ساحة حرب فعلية، يبدأ دوره في المعركة قبل إطلاق الرصاص بهدف زرع الوهن، ويستمر أثناءها في مساندة آلة الحرب، وإضعاف معنويات العدو، في حالة الصراع العربي الصهيوني تحديدًا، عانى العرب على مدار عقود من هزائم الخطاب ربما أكثر من هزائم الجيوش، فقد استطاع التحالف الصهيوني الاستعماري قلب حقائق الصراع كاملة، وروَّج أساطير كاذبة صدقتها مليارات البشر على مدار 80 عامًا ويزيد.
أنجزت المقاومة في حرب الخطاب انتصارات لا تقل أهمية -في المدى القريب والبعيد- عن الصمود العسكري الأسطوري في ميادين القتال؛ إذ للمرة الأولى في تاريخ هذا الصراع، يتمكن خطاب المقاومة من مواجهة خطاب التلاعب الصهيوني المدعوم من الغرب الاستعماري بأسره، وتتجلى آثار هذا الانتصار في تعرية الأساطير الكبرى الكاذبة؛ مثل: وصف المقاومة بالإرهاب، وإظهار الوجه الحقيقي للاحتلال الوحشي، وإسقاط أكذوبة الجيش الذي لا يُقهر، وإظهار حقيقة الجندي «الإسرائيلي»، بوصفه جبانًا، مفتقدًا للكفاءة، عنصريًا، متوحشًا.
ملايين الأفراد في العالم تكاتفوا لإنتاج خطاب مقاوم للاحتلال «الإسرائيلي»
وقد تمكن خطاب المقاومة تحقيق هذه الانتصارات الساحقة بفضل تغيرات مهمة في منتجي هذا الخطاب، ووسائط تداوله؛ فلأول مرة في تاريخ القضية يتكاتف مئات الملايين في بقاع العالم كافة في إنتاج خطاب مقاوم للاحتلال «الإسرائيلي»، يجمعهم إيمان مشترك بحق الفلسطينيين في الحرية، وإدراك لوحشية الاحتلال، علاوة على ذلك، فقد عرف خطاب المقاومة ثراءً غير مسبوق في مضامينه وأساليبه وجمالياته وطرق تعبيره.
من زاوية عامة، ما أهم معالم الخطاب الناجح؟
– عادة يُعرَّف الخطاب الناجح بأنه القادر على تحقيق الأهداف والغايات التي يسعى لإنجازها، وفي حالة الحروب، يُقاس نجاح الخطاب بقدرته على خلق حالة صمود عقلي وروحي ومعنوي لدى الجنود، وإلحاق هزيمة معنوية بروح العدو، وعقله، ونفسيته، علاوة على قدرته على إضفاء مشروعية على فعل الحرب، وبناء إدراك خاص لها يخدم مصالح الطرف المحارب.
وكيف اقترب أو ابتعد خطاب المقاومة من هذه المعالم؟
– بمعايير النجاح المادي، تمكَّن خطاب المقاومة من التصدي للخطاب الصهيوني في ميادين عدَّة، فعلى مستوى الجبهة الداخلية، حاول الاحتلال بذر الفتن والشقاق بين الشعب الفلسطيني ومقاومته، وبفضل الخطاب التضامني المكثف الذي وجهته المقاومة لأهل غزة ممن عانوا التهجير، والتدمير، والتجويع، والترهيب؛ ظلت الساحة الداخلية صامدة رغم طول زمن المعركة، وتعدد جبهاتها.
أبو عبيدة هو «المعادل الخطابي» لبندقية «الغول» وقذائف «الياسين»
كما تصدى خطاب المقاومة للخطاب الصهيوني في الساحة العربية؛ فالخطاب الصهيوني الناطق بالعربية استهدف تشويه المقاومة، وشق الصف، وعزل القضية عن الشعوب العربية، وبعد ما يزيد على 9 شهور لم يحقق هذا الخطاب أيًّا منها، لكن الانتصار المدوي لخطاب المقاومة كان على الساحة الدولية؛ فقد انحسر تأثير التلاعب الصهيوني بالوعي الجمعي العالمي، وانكشفت الصورة القبيحة للاحتلال الدموي، وهناك سمة مهمة في طبيعة نجاح خطاب المقاومة هي الحفاظ على «أخلاقية الخطاب»؛ وهو ما تجلى في مصداقيته، وشفافيته، وانحيازه للقيم الإنسانية الأساسية مثل الحرية والعدل والمساواة.
الخطابات جزء من الحرب النفسية في إدارة المعركة، إلى أي مدى نجحت المقاومة في ذلك؟
– خطابات الحرب جزء من الحرب النفسية التي تستهدف هزيمة روح الخصم، ووعيه، وعقله، وإرادته؛ ويشارك فاعلون كُثر في هذه الحرب النفسية الضارية، وعلى الرغم من المذابح، والإبادة، والتجويع، والتعطيش، والتلاعب؛ فإن إرادة المقاومة، ومعنوياتها، وإيمانها بعدالة قضيتها كلها لم تتأثر، وهو ما يتجلى في أفعال مادية مثل مواصلة القتال، وأفعال خطابية مثل الخطابات الرسمية التي تصدر عن الناطقين باسم المقاومة، ولعل خطب أبي عبيدة تحديدًا، تمثل عينة نموذجية لخطابات المقاومة.
ما أهم المفردات التي ركزت عليها خطابات أبي عبيدة، ودلالتها؟
– خطابات أبي عبيدة جزء صغير من خطاب المقاومة، وتعود أهميته إلى دوره في التعبير عن الجبهة العسكرية للمقاومة، أبو عبيدة هو «المعادل الخطابي» لبندقية «الغول» وقذائف «الياسين» وقنابل «شواظ» المتفجرة؛ وهو يخوض أيضًا معارك من النقطة صفر، فمهمته هي التصدي لخطابات التضليل التي يروجها العدو حول سير المعارك، وإضعاف معنويات الاحتلال عن طريق تسليط الضوء على تخبطه وفشله، وجبن جنوده، وافتقادهم للكفاءة، والتعريف بمنجزات المقاومة، وشحذ همم أنصارها، وتوجيه رسائل سياسية وعسكرية للأطراف الأخرى.
صوت أبي عبيدة يمثل نقطة نور بفضل الحزم والعزة والكبرياء
ولتحقيق ذلك يستعمل حزم مفردات متعددة؛ فالمفردات العسكرية حاضرة في وصف مجريات الحرب، ومفردات القانون الدولي وحقوق الإنسان حاضرة في مخاطبة المؤسسات الدولية والمتلقين في دول العالم، والمفردات الدينية تتخلل الخطاب تعبيرًا عن هوية المقاومة، وتحفيزًا على دعمها.
تجاوب الرأي العام مع خطابات أبي عبيدة، ما دلالته؟
– ربما يكون أبو عبيدة أشهر خطيب عربي في الوقت الراهن، يظهر هذا في معدل انتشار خطبه، وتداولها، وأثرها في المتلقين، ونحتاج إلى دراسات إعلامية تبرهن كمِّيا على هذا التأثير المحسوس، وبفضل هذا التأثير أصبحت خطابات أبي عبيدة حاسمة في بناء إدراك للأحداث والموقف منها، لا سيما في لحظات المواجهة الحرجة، فهو يُخلِّد إنجازات المقاومة، ويضعف ثقة العدو بنفسه.
علاوة على ذلك، فإن صوت أبي عبيدة المتحدي الأبيّ يستمد تفرده من شيوع أصوات الخنوع والمذلة في العالم العربي، وفي ظل هذا الهوان الخطابي العربي بشأن فلسطين، يمثل صوت أبي عبيدة نقطة نور، بفضل الحزم والعزة والكبرياء.
هذه الإبادة نقطة سوداء في تاريخ البشرية ويجب أن تظل حية في الذاكرة
كيف يمكن للمقاومة أن تقدم خطابًا إنسانيًّا تكتسب به شرائح جديدة داعمة، بجانب داعميها الأساسين من العرب والمسلمين؟
– من الضروري الحفاظ على مكتسبات خطاب المقاومة، ومراكمتها، وأقترح لتحقيق ذلك ما يأتي:
1- الحفاظ على البُعد الأخلاقي لخطاب المقاومة؛ فيجب تجنب أي عبارة عنصرية أو تحقيرية أو مثيرة للكراهية، والتركيز على الحقائق وحدها.
2- الحفاظ على مبدأ المصداقية؛ بفضل تحري الدقة، والوصف الدقيق للواقع، لا سيما في مواجهة عدو يتنفس الأكاذيب.
3- التركيز على المشترك الإنساني، واستلهام خطابات حقوق الإنسان الشهيرة التي تعارض الاحتلال الاستيطاني، وتهاجم المذابح التي يرتكبها المستعمرون، وتدعم حق الضعفاء والأبرياء في الدفاع عن أوطانهم.
4- مواصلة التأكيد على مشروعية المقاومة، وتوافقها مع القانون الدولي، والقرارات الدولية.
بهذه الأمور تحافظ المقاومة على مكتسباتها وتقدم خطابًا إنسانيًّا
5- تسليط الضوء على تناقضات خطابات العدو، والمسافة الشاسعة بين ما يقوله وما يفعله، والأخطار التي يشكلها على القيم الإنسانية العالمية، والآثار المرعبة التي تترتب على مساندته وهو يرتكب جرائم إبادة وتهجير وتجويع.
6- ابتكار أساليب مبدعة للتغلب على الاستبداد الرقمي، وفضح شركات التواصل المتحالفة مع الإبادة، وحث المؤسسات الحقوقية والدولية على فضحها، ومساءلتها.
7- التركيز على السرديات الصغيرة، وإعادة حكي آلاف القصص المفجعة التي صنعها الاحتلال.
8- وضع إستراتيجية شاملة لبناء ذاكرة جمعية بالإبادة، والسعي لتخليدها في تاريخ الإنسانية، وتشكيل فرق من المتطوعين في كل مكان بالعالم لبناء أرشيف مذابح فلسطين، وتوثيق كل الجرائم التي تعرضوا لها، والتعريف بها في كل فضاء ممكن، وفضح مجرمي الحرب من مرتكبيها، هذه الإبادة نقطة سوداء في تاريخ البشرية، ويجب أن تظل حية في ذاكرة البشرية إن أردنا تجنب وقوعها مرة أخرى.