في أغسطس الجاري، حذر رئيس حزب معسكر الدولة «الإسرائيلي» بيني غانتس، من اندلاع حرب أهلية في «إسرائيل» بسبب سياسات حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وفي كلمة بثها عبر منصة «إكس» قال غانتس: «إذا لم نعد إلى رشدنا ستندلع هنا حرب أهلية، ولا ينبغي طمس الحقيقة».
وقد يُظن أن مخاوف اندلاع هذه الحرب الأهلية سببها «طوفان الأقصى» على محورية دورها وتأثيرها، لكن جذور هذه المخاوف تمتد إلى أعمق وأبعد من ذلك بكثير.
في دراسة خرجت في يوليو 2023م عن معهد الأمن القومي بـ«تل أبيب» تقول: إن نتنياهو قد يلجأ إلى مواجهة متعددة الجبهات لمحاولة تجاوز الأزمة الأخيرة التي اشتعلت في المجتمع ومحاولة توحيد صفوفه، بعدما بدأت التحذيرات من حرب أهلية تكثر في المجال السياسي، منذ إعلان الحكومة مشروعها للإصلاحات القضائية في يناير 2023م(1).
ويكمن السبب الأول لاندلاع حرب أهلية داخل «إسرائيل» في التركيبة السكانية للمجتمع ذاته، فهي تركيبة شديدة التنوع والتعدد، أقرب لعدم التجانس بالنظر لطبيعة نشأة وتشكل الدولة، فالدولة تشكلت عبر عملية احتلال للأراضي الفلسطينية، أعقبها موجات استيطان لهذه الأراضي عبر تدفق للمهاجرين اليهود من شتى بقاع الأرض، ومن ثم فالمكون الرئيس للمجتمع إما مهاجرون أو أبناء مهاجرين، غير متجانسين.
وهذا ما دفع الحكومات «الإسرائيلية» لتنفيذ ما يسمى سياسة «وعاء الانصهار» منذ خمسينيات القرن الماضي؛ لخلق مجتمع متجانس، لكن الدراسات القادمة من الداخل «الإسرائيلي» في السنوات الأخيرة ترى أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل، ويؤكد هذا الطرح التوترات العنيفة التي يشهدها الداخل بمستوياته المختلفة؛ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية(2).
حيث يعاني المجتمع من تصدعات أساسية في تركيبته الديموغرافية؛ يأتي على رأسها الصدع الديني/العلماني، ويعني وجود مجموعة من العلمانيين مقابل مجموعة أخرى من المتدينين، وتختلف كلا المجموعتين حول النمط الثقافي العام للدولة وهويتها، ونظام الحكم، هذا الصدع الذي يمثل جوهر الأزمات السياسية التي تعاني منها الدولة في السنوات الأخيرة، وينعكس حديثًا في الأزمة ما بين اليمين واليسار على موقف كل منهما من لإصلاحات القضائية التي طرحها نتنياهو.
ففي يناير 2023م، أعلن ياريف ليفين، وزير العدل، ما أسماه «الإصلاحات القضائية»، تتضمن هذه الإصلاحات تقويض صلاحيات المحكمة العليا وتقييدها في كل ما يتعلق بإلغاء قوانين للكنيست أو قرارات للحكومة أو قرارات وأوامر صادرة عن المؤسسة الأمنية والعسكرية، من خلال تصويت الأغلبية العادية في الكنيست، في مقابل ذلك منح حق التشريع للسلطتين التنفيذية والتشريعية فيما يخص الحقوق الأساسية كالملكية والتنقل والتظاهر بالإضافة لحق اختيار قضاة المحكمة العليا.
وتهدف الإصلاحات كذلك إلى تغيير قانون الحصانة البرلمانية لأعضاء الكنيست والوزراء ورئيس الوزراء، بحيث لا يواجهون التحقيق أو المحاكمة خلال توليهم منصبهم، كما تهدف إلى إلغاء بند الاحتيال وخيانة الأمانة في القانون الجنائي والعقوبات، بحيث يتحول السياسي والموظف الحكومي إلى رجل فوق القانون(3).
هذه الإصلاحات مدعومة بالأساس من قبل الائتلاف الحاكم المكون من أحزاب دينية وقومية متطرفة أهمها حزب الليكود، بالإضافة لحزب الصهيونية الدينية بقيادة بتسلئيل سموتريتش، وحزب القوة اليهودية بقيادة إيتمار بن غفير، وحزب نوعم بقيادة آفي ماعوز، ويرى هؤلاء أن التعديلات القضائية ستساعد على المحافظة على هوية الدولة اليهودية من جهة، ومن جهة أخرى تفتح خيارات أوسع للعمل على ضم الضفة الغربية أو على الأقل أجزاء واسعة منها دون معارضة تُذكر من المحاكم، ومن ثم تصفية القضية الفلسطينية بالكلية.
لكن تيارات مجتمعية مختلفة من اليسار والوسط، بالإضافة للجيش، ومنظمات المجتمع المدني، ورجال لاقتصاد، ورأس المال رفضت هذه الإصلاحات بشدة، وقامت بموجة احتجاجات واسعة حاشدة لم يشهدها المجتمع من قبل، إذ يرون أن محاولة الحكومة الحالية تغيير تركيبة القضاء وصلاحياته مفيدة لنتنياهو وائتلافه، وخطيرة على «إسرائيل» وديمقراطية الدولة، بل إن هناك من اعتبرها «انقلاباً سياسياً» يمهد إلى تغيير جوهر نظام الحكم(4).
كذلك تمثل أزمة الحريديم أحد تجليات الصدع الديني/ العلماني داخل المجتمع، حيث تمثل الامتيازات الاجتماعية والسياسية للحريديم إحدى الأزمات التي تضرب بالمجتمع في السنوات الأخيرة.
ويعود أصل الأزمة إلى العام 1949م، حيث أقر الكنيست قانون خدمة الدفاع، الذي ينص على أن التجنيد العسكري إجباري لجميع المواطنين، لكن خلال حرب عام 1948م، أبرم رئيس الوزراء حينها ديفيد بن غوريون اتفاقًا مع زعماء الطائفة الحريدية لإعفاء أولئك الذين انقطعوا لدراسة التوراة من الخدمة العسكرية الإلزامية، مما يسمح للرجال الحريديم بـ«تأجيل» خدمتهم في جيش الدفاع من خلال الدراسة في المدرسة الدينية من سن 18 عامًا حتى بلوغهم سنًا محددة لا ينطبق فيها التجنيد عليهم(5).
في السنوات الأخيرة، اشتعلت أزمة الحريديم، حيث تضاعفت أعداهم، وبالتالي زادت قوتهم السياسية، حتى أصبحوا العنصر الأهم في تشكيل أي حكومة، لكن على النقيض من هذا التأثير السياسي القوي، والحصول على موارد مالية ضخمة من الحكومة دعمًا لطلاب مدارسهم، لا يشارك اليهود الحريديم في الدورة الاقتصادية، ولا يدفعون الضرائب، ولا يحاربون في الجيش؛ مما أدى لشعور عام من السخط والظلم الاجتماعي حتى باتت باقي فئات المجتمع ينظرون لأنفسهم باعتبارهم «حمير الحريديم».
بالإضافة لهذا الانقسام العميق وتجلياته السياسية المعاصرة، هناك التمييز الحاصل بين اليهود الغربيين (الأشكيناز) المنحدرين من أمريكا وأوروبا، والشرقيين (السفارديم) القادمين من الدول العربية أو أفريقيا، حيث عانى هؤلاء الشرقيون من العنصرية والتمييز المجتمعي لصالح الغربيين في الرواتب والمناصب.
ومن جهة أخرى، هناك التمييز بين العرب واليهود؛ ففي العام 1948 بقي حوالي 150 ألف فلسطيني من أصل 900 ألف كانوا يعيشون داخل أراضي عام 1948م بعد فشل محاولات تهجيرهم، ثم أجبروا على حمل الجنسية «الإسرائيلية» بعد ذلك، لكن هذا التواجد المتزايد للعرب بالنظر لمعدلات الإنجاب، والمختلف قوميًا ودينيًا، يمثل خطرًا على يهودية الدولة؛ ما يدفع بتوترات واحتكاكات دائمة بين العرب واليهود، خصوصًا وأن فلسطيني الـ48 يعتبرون وفق الأعراف الدولية هم أهل الأرض والسكان الأصليون.
وآخر هذه التصدعات التي يعاني منها المجتمع «الإسرائيلي» هو الانقسام الطبقي بين الفقراء والأغنياء، فقد كشفت مؤسسة التأمين الوطني في دولة الاحتلال، أن 21% من السكان أصبحوا تحت خط الفقر، حتى أواخر عام 2022 وبداية 2023م(6).
في ظل هذا السياق شديد التعقيد جاءت صفعة السابع من أكتوبر، لتغيم على الأفق السياسي والمجتمعي «الإسرائيلي»، وتزيد من حدة أزمات الداخل على كافة المستويات، وتؤجج نقاط الاشتعال المجتمعية، مما يزيد من احتمالية اندلاع حرب أهلية داخل المجتمع «الإسرائيلي»، خصوصًا إذا ما أخذنا في الاعتبار تسهيلات الحصول على السلاح، وحركة التسليح غير المسبوقة للمجتمع، التي قادها وزير الأمن القومي بن غفير.
________________________________
(1) Meir Elran and Kobi Michael,The Formative Socio-Political Crisis in Israel: Implications for National Security,Strategic Assessment,Volume 26 | No. 2,pp.137-145. July 2023.
(2) إسماعيل، التحوّلات البنيوية في المجتمع «الإسرائيلي» ودلالاتها، مركز باحث للدراسات الفلسطينية والإستراتيجية، 10 مارس 2023م، تاريخ الإطلاع: 29 فبراير 2024م.
(3) Meir Elran and Kobi Michael,The Formative Socio-Political Crisis in Israel: Implications for National Security,Strategic Assessment,Volume 26 | No. 2,pp.137-145. July 2023.
(4) Pnina Sharvit Baruch & Bell E. Yosef,The Independence of the Courts and Israel’s National Security ,the institute for National security studies,19Feb2023.
(5) The Haredi Exemption,Israel Policy Fourm,7 Jul2023,seen:7Mar2024
(6) إسماعيل، التحوّلات البنيوية في المجتمع «الإسرائيلي» مرجع سابق.