مرافعة في قضية كبرى
لقد ظل يحلم بالتعيين في النيابة والقضاء، وهو يتدرب على المحاماة في مكتب خاله، حتى صارحه بأن تحريات الأمن رفضت طلبه رفضا قاطعا من دون تحريات تذكر، لأنه من عائلة سيئة السمعة ذات تاريخ حافل بالجرائم، باستثناء والده الذي كان قامعا لها في حياته، ومات يأسا من إصلاحها، وطلب منه أن يكون قويا وحذره من البكاء على الأطلال أو الشعور بالدونية وانكسار النفس، وقد أعطاه خاله دفعة للأمام وثقة بالنفس فهو قدوته التي يقيس عليها، وشعر بأنه يتقدم للمرافعة في قضية كبرى، لعلها قضية ما يسمى بالسلام الاجتماعي في المجتمع المصري الراهن أو عصر ازدهار الفساد، الضارب عرض الأفق بكرامة مصر ومستقبلها باستهانة واستهتار وسبهللة لم يسبق لها مثيل في التاريخ! (الرواية، ص 231 وما بعدها)
عنصر مؤثر
وإذا كان خاله المحامي الكبير مؤثرا بحكم القرابة وأشياء أخرى، فإن ابنة خاله الآنسة رندا كانت عنصرا مؤثرا على الجانب العاطفي والاجتماعي في حياة حمزة، فقد لفتته بتكوينها وسلوكها، ورفرف قلبه بقوة مذ وقع بصره عليها، ولعلها من الشخصيات القليلة في الرواية التي حظيت ببعض الأوصاف الخارجية والجسمانية ” قالب من الشكولاتة، خلاسية البشرة ساحرة شهية المذاق على البعد، فما بالك لو اقتربت حثيثا؟ شعنونة إلا أنها عاقلة جدا، قوام سمهري، نحيل، مفسر بدقة حاسمة في هارمونية ناعمة كأنها نحت فرعوني للأميرة ميريت ابنة رمسيس الثاني وزوجه في نفس الوقت، حتى ابتسامتها قريبة الشبه بها في تمثال إخميم الشهير، منفتحة، متبحرة في الموسيقى والغناء في جميع الأجيال”(الرواية، ص107). وتبدو راندا جامعة لأشتات الثقافة والفكر، كأنّها مثقف من مثقفي مقهى ريش الشهير، وإن كنت لا أتصور فتاة تكون شعنونة وعاقلة في الوقت نفسه وتبحث عن الموسيقى الكلاسيك والموسيقى المحلية، وتقرأ ابن رشد وأولاد حارتنا ، وتجيد الرقص وتجمع توقيعات الفنانين والممثلين من أول عمر الشريف ومديحة يسري حتى نور الشريف وعادل إمام، وتتابع أعمدة الصحف والشعر والقصص والأوضاع السياسية، وتصف الزواج بأنه أفشل مؤسسة اخترعها الإنسان، وأن الرجل يبحث عن جارية تخدمه وتمتص شهواته، والمرأة تبحث عن ظل يحميها وينفق عليها… هذا تصور مبالغ فيه لفتاة مدللة، بقيت مع والديها بعد سفر أخيها وتجنسه بجنسية أوربية، وزواج أختها الكبرى في بلد أوربي أيضا، ويدهش القارئ حين يراها تقرر الزواج من حمزة الفلاح الذي لم يبلغ ثقافتها، بل تذهب معه لتعيش في الريف وترتدي جلباب الفلاحة ومنديل الرأس الريفي، وإذا كان هذا النموذج ممكن نظريا، فالواقع يقلل من وجوده عمليا، إذ إن المرأة عادة في سن الزواج تشغلها قضايا العاطفة والقلب والعريس أو فارس الأحلام، ولا يعنيها ابن رشد ولا زكي نجيب محمود، اللهم إلا إذا كانت باحثة أو متخصصة في المجال العلمي. وفي كل الأحوال لم نجد انعكاسا كبيرا لهذا الوضع على حمزة، فهو يعنيه المرأة التي آلت إليه بعد مواقف وعلاقات وفترة زمنية قضاها متدربا في مكتب أبيها، وهي من قررت أن تتزوجه، وكانت المبادرة بيدها لا بيده. مع أن أباها المحامي الكبير كان يراها فتاة رومانتيكية حالمة يلزمها زوج رومانتيكي مليونير ينفق عليها كي تجلس طول النهار والليل تقرأ في الأدب وتسمع الموسيقى وتكتب مذكرات خاصة بها على الانترنت (الرواية، ص161)، لقد زال عن حمزة أثر الصدمة المتمثلة في تحرر راندا واختيارها الأزياء على النمط الأجنبي، فقد اكتشف من خلال علاقته بالأسرة واقترابه منها أنها كائن إنساني بمعنى الكلمة، في غاية الرقة والنقاء إلى جانب أنها ست بيت ممتازة تتقن فنون الطبخ وأصناف لمأكولات. مما جعل كتاب أبلة نظيرة سجلا بدائيا لمأكولات خشنة غير صحية! هكذا تصفها الروية، وأظنها مبالغة كبيرة أيضا وإن كانت ممكنة عقلا. (الرواية، ص165).
حكمت المحكمة
تبقى شخصية حمزة ذات حضور اجتماعي قوي في منية الكردي، ولو لم تستر ح إليه عائلته بحكم إصراره على معرفة قاتل ابن إسطاسية، فأهل البلدة يحترمونه، ويقدرونه، ولعل ذلك يرجع إلى كونه ابن الشيخ حامد البراوي. العالم الأزهري الذي كان يقوم بردع المنحرفين من العائلة، وينصف المظلومين من ضحاياهم. وبلغت الثقة فيه أن يعترف له بعض أطراف العائلة وأعيان العائلات بأسرار لم تكن معروفة لأحد، فزوج عمه العمدة تعترف له بما ارتكبه زوجها من مظالم في صفحات عديدة تشمل الجزء (و) من الفصل الثالث عشر وعنوانه “فتق في الحجاب الحاجز”، (ص 190 وما بعدها)، وأيضا فإن سيد أبو ستيت يعترف له بعد أن حكمت المحكمة على قاتلي محفوظ ابن إسطاسية في قضية أخرى، وهما عمار وعبد الغني ابنا عمه العمدة، فمحكمة الله هي الأعدل، ويتحدث عن وساخة الأيام ومشاركته البراوية في مظالمهم والاحتماء بهم، وخسارة ابنه وابن أخيه سيد أبو ستيت ويعترف أنه يريد أن يتطهر ، وينوي الحج لعل الله يغفر له (الرواية، ص 212وما بعدها).
لقد هيأ الوضع الاجتماعي لحمزة أن تنتهي الرواية بنهايات سعيدة بالنسبة له وللمظلومين، ويسعد مع الفتاة الشعنونة العاقلة!
الصياغة
كتب خيري شلبي عددا غير قليل من الروايات، وتم تصوير بعضها على شاشات التلفزة والسينما، مما حقق له شهرة واسعة، وأظنه قد اكتسب مهارة في السرد مكنته من استخدام الموضوعات المختلفة في بناء رواياته بطريقة فيها إسهاب وإطناب. مع الأخذ في الحسبان وجود سلبيات عديدة بعضها بدأ مع روايته الأولى (السنيورة) واستمرت حتى آخر رواياته، وأبرز هذه السلبيات اللغة.
الفصحى والعامية
ويتردد خيري شلبي بين الفصحى والعامية، فهو يكتب الفصحى أحيانا كأنه لغوي متخصص، وتدهش حين تراه يهبط إلى العامية في الحوار، أو يمزج السرد الفصيح بالألفاظ العامية، وكأن الفصحى لا تنهض بالمعنى الذي يريد، مع أن الأشقاء العرب قد لا يفهمون بعض ألفاظ العامية المصرية. أشعر أن العامية في السرد والحوار تمثل ضيفا ثقيلا غير مرغوب فيه. ويقيني أن الفصحى وحدها هي لغة السرد الأدبي التي تبقى منذ نشوء الأدب العربي. العاميات تتغير، وعامية القرن التاسع غير عامية القرن العشرين غير عامية القرن الحادي والعشرين.. ومن يهتم بالتطور اللغوي عليه أن يلاحظ عامية اليوم في السيارات الأجرة او الميكروباص أو التكاتك أو على وسائل التواصل الاجتماعي، فضلا عن الشوارع والأسواق. والأغاني والمسلسلات وأفلام السينما، هناك معجم عامي مختلف عن معجم العاميات قبل خمسة عقود أو ست. وأظن أن الكتاب الرواد في السرد العربي الحديث لم تصمد أعمالهم حتى يومنا إلا بالفصحي التي لا تستعصي على أديب موهوب. والأمثلة معروفة..
الاتكاء على العامية يقلل من قيمة العمل الأدبي، وخاصة إذا كان الكاتب قادرا على الأداء الفصيح دون معوقات.
على كل حال، فإن لغة خيري شلبي الفصحى في إسطاسية سليمة إلا قليلا، كأن يصرف مثلا كلمة كسلان “كنت كسلانا عن السفر” (الرواية، ص 183)، والكلمة ممنوعة من الصرف لزيادة الألف والنون- وزن فعلان، أو يستخدم كلمة توأمين بدلا من توءم عندما يشير إلى هابيل وقابيل (الرواية، ص 205)، والتوءم يدل على اثنين، والتوءمين على أربع والتوائم على ثلاثة فأكثر. أو يجري كلمة قناعة بمعنى اقتناع (الرواية، 229)، وهو خطأ شائع، لأن القناعة هي الرضا بالمقسوم أو بما في اليد، والاقتناع هو النزول على منطق الحوار والجدل.
تجليات العامية
أما العامية فلها حضور غير قليل في المعجم والحوار والوصف، كما نرى مثلا في قول السرد على لسان الفلاحين الذاهبين إلى الحقل في الصباح” يا ولية فضيها سيرة بقى! إحنا ناقصينك؟!” (الرواية، ص 11)، وكان يمكن أن توضع بدلا منها: يا إسطاسية: لا تصيحي. كفي. ارحمينا من صوتك الباكي” أو نحو ذلك، فهي لن تفضها سيرة لأن القتيل ابنها، وهي تدعو الله ولا تدعو غيره كي ينصفها ويحقق لها العدالة التي ترضيها.
غلاف الألفاظ
وقد تأخذ العامية شكلا غير مقبول تكون فيه البذاءة هي غلاف الألفاظ المستخدمة، مثل: “… القبطي ولا تبطي، وإن قال … احرق دينه”، وهي لغة مبتذلة ولا يليق أن ترد في السرد مهما كانت المسوغات، وفيما يبدو فإن التملق الطائفي مع تشويه صورة المسلمين تدفع السارد إلى تجاوز الحدود والأعراف… (الرواية، ص 24)، أوحين تتحدث أم حمزة عن وضع إسطاسية المؤلم فتقول: “نارك امرأة عارية ملتاثة تبغي الصعود إلى ربها كما ولدتها أمها لتبلغة شكواها الملتهبة..”، والتشبيه هنا غير مقبول وخاصة في مقام الألوهية (الرواية، ص 31)، ثم تأمل هذه الجملة وهذا اللفظ العامي المبتذل الذي أحذفه لأنه يتعلق بإخراج الفضلات في الحمام وقد كرره السارد في أكثر من موضع” لو شخطت فيه … على روحه!” (الرواية، ص45)، إنها واقعية مقزّزة ترفّع عنها الواقعيون الكبار مثل نجيب محفوظ.
قد تأخذ العامية في الوصف السردي شكلا أقل حدة، وتشير إلى تعبير صار غير متداول كثيرا في زمننا. يعلق المقدس عازر على حوار بين أدهم ورشاد أبو ستيت، فيقول: “كلام عيال وشغل مصغرة، لكني ابتلعته وأهملتهما، مشيا إلى حال سبيلهما. كوّعت في مطرحي، سرقتني غفوة خيل إلى أنها قصيرة…”(الرواية، ص 47). ويقصد أن كلام أدهم ورشاد لا أهمية له، وأنه وضع كوعه تحت رأسه وغفا في المكان الذي يجلس فيه..
وقديما كان صوت الميكرفون أو مكبر الصوت يشغل الناس في القرية، لأنه ينقل الأصوات العادية إلى أصوات يسمعها الناس جميعا، فكان الحرص أن يكون جهاز مكبر الصوت سليما خاليا من الضعف أو المشكلات الكهربية أو الآلية وخاصة في المسجد يوم الجمعة، فيصفه السرد بألفاظ عامية “صوت خطوات الخطيب وهو يصعد إلى المنبر، وصوت الميكرفون وهو يفرقع ويخرخش بصوت حاد مزعج…” (الرواية، ص 206).
الوسواس
وبينما تجد لغة راقية بفصحاها وأدائها على لسان أم حمزة، وهي تعبر عن تمسكها بالإقامة في القرية وسط أطفال العائلة، وتودع ابنها لصلاة الجمعة، وتخبره أنها تنتظره بعد الصلاة على الطبلية، نجد لغة أخرى يرسلها شيطان ذو قرنين ونابين بارزين وحاجبين مقوسين وذيل طويل مبروم متكور يرقّص حاجبيه، ويهمس في أذن حمزة بصوت يزلزل الأرض من تحته: “ما نتاش مكسوف؟ يا عيلة وسخة معندهاش ذمة ولا ضمير! يا قتلة! ما نتاش حاسس إن البلد مش طايقة سيرتكم؟ وكمان رايح تصلي في الجامع الكبير؟! طب شوف لك زاوية ضيقة ولا خليك في الدار! وخلى بالك الناس ما عادتش بتواكل من الكلام ده! تعمل لي فيها شيخ ابن شيخ براحتك! والناس مش حتكسفك برضه! حيجاملوك ويسلموا عليك لكن ربنا عالم باللي جواهم من ناحيتكم….” (الرواية، ص 208).
حوار بالعامية
وإذا كان الشيطان يوسوس لحمزة باللهجة العامية المبتذلة كأنه يردح له، فإن هبوط العامية يمتد إلى الحوار، وكأن السرد يسعى إلى تضييع أثر جودة التعبير الفصيح الجميل، مثلما نرى في الحوار بين المقدس عازر وسيد أبو ستيت حول الشركة في ماكينة المياه:
“صار وجوده بجواري كأن الكنيسة- وهي أضخم بناء في الناحية – انهارت فوق صدري.. صرت أتعجل انصرافه، اعتدلت في جلستي وسألته بضجر واضح:
– أعمل لك شاي تاني؟
فسألني مستنكرا بخشونة مستترة:
– ما رديتش عليّ ليه؟!
شوحت ولكن في شيء من المودة.
– يساويها ربنا!
ومشى يتخفى لصق الجدران مشية قاطع طريق عريق.. “(الرواية، ص 46).
الوصف بالفصحى له إيقاع جميل، ويأتي الحوار بلهجة نشاز خشن. لا سبب هناك يسوغ أن يقال إن العامية تمثل مستوى الشخصيات اللغوي أو الثقافي، فالأدب يرقى بلغة الشخصيات بما لا يخالف مستواها الثقافي وقدراتها الفكرية، ولكنه لا يهبط بلغتها إلى اللهجة العامية.
وابور الجاز
وعلينا أن نتذكر أن الحوار في الرواية مهم، لأنه يكشف عن سير الأحداث في الماضي، وما يمكن أن تمضي عليه في المستقبل، كما يوضح طبيعة المواقف وغاية الشخصيات في الحاضر، وهو ما رأينا نموذجا له في الحوار السابق.
ومن المفارقات أن الرواية تمزج أحيانا بين الحوار بالعامية والفصحى. شخصية تتكلم العامية والأخرى تحاورها بالفصحى، كما نرى مثلا بين حمزة وأمه. فقد جلست بجواره وهي تعدّ له الشاي على وابور الجاز كما كانت تفعل مع والده كل صباح، وزفرت كأنها تخفف عن صدرها حملا ثقيل الوطء عليه:
– ” اليوم الخميس! وغدا الجمعة! و.
قاطعتها مازحا:
– وبعد غد السبت!
فزفرت مرة أخرى:
– يا ترى يا هل ترى!
ثم رفعت رأسها إلى السقف ضارعة:
– هات العواقب سليمة يا رب لأجل حبيبك النبي!
– ما المناسبة السبت مشئوم مثلا؟
– نسيت يا حمزة؟! قضية عمار وعبد الغني!
هتفت كالملسوع شاعرا بالتقصير:
– يا.. ا.. ا.. ه! نسيتها فعلا. كانت يوم الأربعاء! منذ حوالي ثلاثة أسابيع!
– الجلسة قبل الماضية كانت مؤجلة لتقديم مذكرات! الجلسة الماضية تأجلت للنطق بالحكم!
– ما شاء الله عليك يا أمي! أحسدك والله على هذا التركيز والاهتمام بهما أكثر من أمهما!
– أنا بالفعل أمهما! في كل صلاة أدعو الله أن يفك حبسهما ويعودان لعيالهما! قلبي يتقطع من أجلهما! ومن أجل وقف الحال الذي أصابنا! هذه ضربة تقصم ظهر العمدة وظهر العائلة كلها!” (الرواية، ص 120- 131).
ماذا لوجاء الحوار كله بالفصحى؟ كان يمكن للكاتب بقليل من الجهد أن يجعله كذلك ويتناسب مع مستوى المتحاورين، ولم يكن مضطرا لمزج العامية بالفصحى دون ضرورة واضحة.
حلو الكلام
ومن المفارقات أن السرد يحاول أن ينقل أسلوب الفلاحات في التعبير والحكي بالعامية كما يجري على لسان زوجة العمدة وهي تعترف لحمزة بفساد زوجها:
“حلو الكلام؟ طبعا ليس حلوا ولا نيلة.. رب اقطعني، لكن لا تؤاخذني يا حمزة إن الكلام جبال فوق صدري فلا بد أن تساعدني يا ولدي على تعتيقها (يقصد إنزالها) لعلني أستطيع أن ألقط أنفاسي.. لا يغرنك هذا التخن، إنه على فاشوش، إنه كلام كثير كالعلل، نفخت جسمي من كثرة ما شفت من عميك الاثنين وكتمته في بطني..” (الرواية ص، 200).
السارد هنا يغالب الفصحى، وهي تغالبه مع أنه أراد العامية، هل هناك فلاحة من أهل الزمن الماضي تقول: لا تؤاخذني، جبال فوق صدري، ألقط أنفاسي، كلام كثير كالعلل، من عميك الاثنين؟
لاريب أن الفصحى يجب أن تكون لغة السرد والحوار جميعا، وإن اقتضى الأمر لفظة عامية يصعب وجود بديل لها فلا بأس.