تبقى الأُهْبة… ولا تشغلنا الأبَّهة.
ومثلما استحال هذا النجاح والامتزاج فَخْراً: فإنه يضع ضريبة مشتركة على القضيتين: أن تستوعبا دروس المرحلة جيداً، على ضوء الوعي القديم، طالما أن التجربتين الانتخابيتين في العراق وفلسطين ليس بينهما غير أربعين يوماً فقط، والوعظ الجامع لهما: أن لا تلقيا السلاح مهما بدت مكتسبات السياسة والانتخابات وافرة، وإنما أجلُ وضعِه: أن يكون انسحاب المحتل، وزوال آثار الاحتلال، ورجوع البلاد إلى أهلها، واستعادة الحقوق.
أهم شيء: ألا يقع الجهادان في الخدعة الديمقراطية، والاكتفاء بمنصب وزاري، بل ورئاسي.
وفي الأيام الغوابر، قبل ستين سنة: جاهد محمد ناصر وحزبُ ماشومي وجناحُه الضارب «دارُ الإسلام» حتى تحقق استقلال إندونيسيا بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت الفئة العلمانية المصلحية تريد سرقة الثورة والاستئثار بها دون دار الإسلام وماشومي وعموم الحركة الإسلامية، لكنها تخاف ما بيدها من سلاح، فكانت خطة الرئيس سوكارنو الذكية:
أن يجعل الرجل الصالح د. محمد ناصر، رئيس حزب ماشومي، رئيساً للوزراء، لتُصدقُه نفسُه أنه صاحب السلطة الفعلية، فلما اطمأنّ زيّن له أن استقرار إندونيسيا رهن بإلقاء المجاهدين السلاح وتسليمه للسلطة، من أجل إتاحة حكم مركزي قوي، فبذل محمد ناصر جهداً مع دار الإسلام، ووظّف كل أدوات المنطق والجدال لإقناعها، مؤمناً أنه لا خوف من ذلك، لكونه هو رئيس الوزراء.
وأبى قادة دار الإسلام وعاندوا، فزاد ضغطه عليهم حتى أنزلهم من الجبال، وأخرجهم من الغابات التي تحصنوا فيها، وانتزع منهم السلاح، حتى إذا ما أتمّ ذلك عزله سوكارنو بما معه من قوة، وعاد محمد ناصر يلوم نفسه حتى مماته، وعاد قادة دار الإسلام يوسعونه تقريعاً، ولاتَ حين مَندم بعدما فقد ذراعه العسكرية الضاربة ضربة ماحقة لم تقم له قائمة مرة أخرى، وسهل عليه سجنهم وممارسة أنواع الاستبداد ضدهم.
وما كان الاستئناف ممكناً حتى لو توفر السلاح ثانية، بسبب الصدمة المعنوية التي أحدثها القرار القيادي الخاطئ الموغل في الخطأ وتبسيط الأمور وإبداء السذاجة، ولمكانة العامل النفسي المتردي بعد انتزاع عنوان الشرف وشارته وأداته، فإن التأجيج والحماسة وأنواع الاندفاع التي تبنيها المناهج التربوية في سنوات يمكن أن تـُبددها انتكاسة نفسية واحدة متولدة من موقف غير واع.
ومضت تلك التجربة درساً للجهادين العراقي والفلسطيني معاً أن يتخذا الانتخابات والاستيزار والوظائف وسيلة من الوسائل السلمية الخادمة للضغط القتالي، ولكن من دون اعتبار ذلك نهاية، وبلا تعطيل للأهداف الإستراتيجية الجهادية الكبرى، وبلا إلقاء السلاح، بل حتى صياغة اتفاقيات الاستقلال والحرية واسترجاع الحقوق تقتضي استمرار وجود السلاح فترة بعدها لضمان التنفيذ وحصول المطالب ومنع التحايل، وأي نزول من جبالنا التنظيمية التي اعتصمنا بها فإنه يعني كشف أسرارنا، وتخدير الهمم الدفاقة، وبذر بذور الاختلاف في مجموعة المجاهدين بسبب تعدّد الاجتهاد السياسي بين رافض ومؤيد.
وفي الشأن الفلسطيني، يتواجه اليوم رصيدان يتنافسان؛ رصيد الجهاد والإيمان والصدق والإخلاص، ورصيد أوسلو والخنوع والفساد الإداري والتسلقات على أكتاف المستضعفين، وما ينبغي أن يَخدع الخَّبُّ خالداً، ويذكر خالد جيداً كيف كان في السبعينيات في مسجد القطان بمحلة النقرة في الكويت يجمع اليافعين من أبناء الجالية الفلسطينية ليلقي فيهم الراشد درساً عن ثلاثية الصف الإسلامي وتربية الصفوة وشعور الاستعلاء والمفاصلة، أو عن المعادلات الفقهية الجهادية ومتوالياتها، أو عن الخطو الموزون وإبداع التخطيط، وكيف كانت تلك الجلسات التربوية مثالاً للمحاضن التي نشأت فيها بعض قيادات «حماس» وترعرع فيها بعض مقاتليها.
ثم قادة الجهاد العراقي يذكرون الإيماء جيداً إلى قمر عالٍ لا يغيب، وفجرٍ يُبشر، وشمس ساطعة لا تفتر، وقبلهما يوم الحرب ذاك الحديث المبكر عن انعدام الأمن الجهادي في ظل المخابرات، والدعوة إلى جهاد فوري بعد أن تنقطع الصواريخ ويكون جندي المارينز وجهاً لوجه مع عراقي رافض يجاهد الكافرين، وقد زادته الأيام موعظة أن يحتفظ بقوته حتى بعد الانسحاب الأمريكي ليعالج احتمالات الحرب الأهلية من طرف يغالب حكمة التاريخ مغالبة ويريد إلغاء الطرف الآخر، وقد تداخلت معه الرغبات الشعوبية الآثمة، وأباطيلُ قـُنـّنت في دستور ظالم في غفلة من انتباهة الأحرار وصارت تعتصم به الخطط اليهودية التي تريد تقسيم العراق وتختفي وراء دغدغات اصطلاح الفدرالية.
وهذا «الاعتداد الصلب» كله قد أنتج عدداً وافراً من «مذاهب العمل» و«معادلات الأداء» أصبحت تشكل بمجموعها منهجاً متميزاً في «الجهاد المعاصر» وفقهه واجتهاداته المضافة إلى كتلة «الجهاد الإسلامي» الموروث عبر القرون كابراً عن كابر، وبطلاً عن بطل، ومجتهداً عن مجتهد، وما ينبغي أن يكون منّا اليوم شذوذ أو إغراب أو لين، بل الاعتصام بالمأثور عن الثقات واجب، ونزيد زيادة خير، ونستنبط للواقع الجديد ما يناسبه.
نستمسك بمذهب الاستظلال تحت سحاب السماء وأغصان زيتون خضر وسعف نخل، لا تحت سرادق تناثرت على أطرافه قطرات دماء المسلمين المظلومين.
ونفاخر باكتشافنا لمذهب الاستقلال في يوم الاختلاط.
ونوالي مذهب الكراهة التنزيهية الحنيفية لمقاربة مصادر التلوث.
ونأخذ بعزيمة الانفطام ومذهب تحريم المراضع إلا من ثدي طاهر.
ونشمخ بمذهب الاستعلاء في الطريق المستقيم السامي.
ونميل مع مذهب الاحتياط الفقهي في الخروج من الشك إلى اليقين.
ونتغنى بأغاني العفاف وأناشيد البراء والولاء.
وفي كل ذلك مواثيق وعهود وعقود، واثقنا بها الله، وجعلنا الأيام تشهد علينا، والناس شهود، وكتبنا قصصاً، وضربنا أمثلة، وصدحنا بأبيات التفاؤل والرجاء والأمل.
ثـُم اللهُ أغيَر.. وهو ولي القَدَر.
___________________________
رسالة كتبها الشيخ محمد أحمد الراشد على أثر فوز «حماس» في الانتخابات بفلسطين.
المصدر: «شبكة فلسطين للحوار».