تتطلع النفوس الصافية والقلوب السليمة إلى الرقي والسمو في التعامل مع النفس والناس، من أجل تحصيل المنافع، والفوز بالسعادة والطمأنينة في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة.
ومن الصفات المعبرة عن هذا السمو أن يكون المسلم سمحاً، فإن ذلك يسهم في تحقيق محبة الله عز وجل ورحمته ورضاه وجنته، ثم محبة الناس ومعونتهم وحسن التعايش معهم، فكيف يكون المسلم سمحاً؟
أولاً: طلاقة الوجه والابتسام في وجوه الناس:
دعانا الإسلام إلى السماحة من خلال الأمر بالابتسام وطلاقة الوجه عند لقاء الناس والتعامل معهم، فإذا لقي المسلم أحدًا؛ تبسم في وجهه؛ إذ التبسم في وجوه الناس صدقة، فقد أخرج الترمذي عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تبسُّمُكَ في وجْهِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ»، وفي صحيح مسلم عن أبي ذر الغفاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا، ولو أنْ تَلْقَى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ».
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم الابتسام في وجوه الناس، فقد روى البخاري عن جرير بن عبدالله أنه قال: ما حَجَبَنِي النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُنْذُ أسْلَمْتُ، ولَا رَآنِي إلَّا تَبَسَّمَ في وجْهِي.
ثانياً: مبادرة الناس بالسلام:
بعد الابتسام يأتي طيب الكلام، وخير ما نبدأ به الكلام أن نلقي السلام، فإن إلقاء السلام فيه الأمن والأمان، والمحبة والاطمئنان، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ علَى شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بيْنَكُمْ».
ونظرا لأن السلام ينهي الخصام؛ فإنه دليل السماحة وبداية خيوطها؛ ولذا حث الإسلام المتخاصمين على إلقاء السلام، وجعل خيرهما الذي يبدأ به، ففي صحيح البخاري عن أبي أيوب الأنصاري أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: «لا يَحِلُّ لِمسلمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيالٍ، يَلْتَقِيانِ: فيُعْرِضُ هذا ويُعْرِضُ هذا، وخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسَّلامِ».
ثالثاً: العطاء بلا انتظار مقابل:
تميل بعض النفوس إلى البخل والحرص على الأشياء، حيث يظن البعض أن العطاء ينقص قيمة التملك لديهم ويفقدهم أشياءهم، والحقيقة أن الإسلام يؤكد أن ما أعطاه الإنسان هو الباقي له، قال تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39)، وقد دعا الإسلام إلى وجوه العطاء المتنوعة حتى يحرر النفس الشحيحة من البخل، فمن انتصر على شح نفسه فقد نال السماحة والفلاح، قال تعالى في وصف الأنصار: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9).
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الرائع في السماحة والعطاء، حتى أثمرت تلك السماحة خير الثمار، ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: ما سُئِلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ علَى الإسْلَامِ شيئًا إلَّا أَعْطَاهُ، قالَ أنس: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فأعْطَاهُ غَنَمًا بيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إلى قَوْمِهِ، فَقالَ: يا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَوَاللَّهِ إنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً ما يَخَافُ الفَقْرَ.
وقد أثاب الله تعالى من يعطي عطاءً بل مقابل أن يجزيه الثواب الجزيل بعطاء خير من عطائه، وهو التيسير في الدنيا والنجاة من كرب يوم القيامة، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْكُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ؛ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا؛ سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
رابعاً: الاعتذار عن الخطأ:
لا يوجد إنسان لا يخطئ، فالخطأ وارد في حياة الناس جميعاً، لكن الإنسان السليم هو الذي لا يتمادى في خطئه، بل يتوب منه ويعتذر لمن أخطأ في حقه، فقد أخرج الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ»، وإن الاعتذار عن الخطأ لا ينقص من قدر فاعله، بل يزيد من قيمته، ويدل على طيب نفسه وسلامة قلبه.
خامساً: قبول العذر من المعتذرين:
إن الله تعالى يعلمنا السماحة بالدعوة إلى قبول الاعتذار من المعتذرين والعفو عن المسيئين والتجاوز عن الجاهلين، ففي العديد من الآيات القرآنية نجد أن الله تعالى يقبل توبة التائبين، ويفرح بهم ويحبهم؛ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) (البقرة: 222).
وما التوبة وقبولها إلا مظهر من مظاهر السماحة، فالعبد يقع في الخطأ ثم يعتذر إلى ربه ويتوب إليه، فيقبل الله تعالى توبته، إن هذه الصورة ترسم في قلوبنا وحياتنا منهاجاً في قبول الاعتذار والتجاوز عن الأخطاء ومسامحة المخطئين، فهذه هي الصورة التي يحبها الله تعالى، أما من تكبر عن قبول الاعتذار، فإنه من شر الناس، بل إنه قد يحرم نفسه من نعيم كبير يوم القيامة.
روى الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أن النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى، إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَإِنَّ شِرَارَكُمُ الَّذِي يَنْزِلُ وَحْدَهُ، وَيَجْلِدُ عَبْدَهُ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ»، قَالَ: «أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ وَيُبْغِضُونَهُ»، قَالَ: «أَوَ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «الَّذِينَ لَا يَقْبَلُونَ عَثْرَةً، وَلَا يَقْبَلُونَ مَعْذِرَةً، وَلَا يَغْفِرُونَ ذَنْبًا»، قَالَ: «أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ، وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ»، ففي الحديث تنفير من كل شخص يفقد جوانب السماحة وقبول الاعتذار من الناس.