في عالم يموج بالأفكار، وتكثر فيه الأخبار، يرفض الإسلام كل دعوى لا يقوم عليها برهان يثبتها، بل إنه يدعو كل مدّع إلى الإتيان بالبرهان على صدق دعواه، حيث يقول الله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 111).
تعريف البرهان واستعمالاته في القرآن والسُّنة
البرهان هو الحجة الفاصلة البينة(1)، ويطلق البرهان على القياس المؤلَّف من اليقينيات(2)، فهو الحجة اليقينية الدالة على صدق الأشياء،
وقد ذكر الله تعالى البرهان في القرآن الكريم في موضع الحق الثابت الذي لا يختلف فيه العقلاء، كما ذكره في سياق استنهاض الكافرين للاستدلال على دعواهم في تقليد غيرهم أو عبادة غير الله.
ففي موضع الحق الثابت قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (النساء: 174)، وفي موضع استنهاض الكفار للاستدلال على دعواهم، حتى يقابلها بالبرهان الذي يدحضها ويكشف زيفها، قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (القصص: 75).
كما ذكرت السُّنة النبوية البرهان في الدلالة على الحق الثابت في النفس والواقع، ففي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ»؛ أي دَليلٌ على إيمانِ المؤمِنينَ، فمَن تَصدَّق استُدِلَّ بصَدَقَتِه على صِدقِ إيمانِه.
أنواع البراهين
لقد أرشد القرآن الكريم إلى أنواع من البراهين والأدلة التي ينبغي اعتمادها والاستناد إليها، سواء كان ذلك في طرح الأفكار أو قبولها، ومن هذه البراهين(3):
أولاً: البرهان الحسي:
وأعني به ما يدل عليه الحس، كالمشاهدة ونحوها، وفي ذلك يقول تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) (فاطر: 40)، وقال عز وجل: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) (الزخرف: 19)، وقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ {3} ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ) (الملك)، ففي الآيات دعوة إلى المشاهدة الحسية التي تدل على صحة الأفكار أو بطلانها.
ثانياً: البرهان السمعي:
وأعني به البرهان المسموع من الوحي، الذي نطق بأوامر الله تعالى ونواهيه، فإذا ثبتت نبوة نبي بالآيات القاطعة الدالة على أنه لا يمثل نفسه، وإنما يمثل إرادة الله الجليل، وجب الأخذ منه والتلقي عنه في كل ما يتعلق بأمور التشريع والأمر والنهي والتحليل والتحريم ونحوها، ولا يقبل من أحد دعوى شيء من هذا إلا ببرهان وعلم من عند الله.
وفي هذا يقول القرآن للذين حرموا وحللوا الأنعام من عند أنفسهم: (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأنعام: 143)، وحين قالوا: إن الله شاء لنا هذا، أي بمعنى أنه رضيه منا، قال: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (الأنعام: 148)، وحين زعموا أن الله أمرهم بالتعري في طوافهم بالبيت، قال: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 28)، وفي التأكيد على البرهان السمعي في الرد على المكذبين، قال تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) (الأنبياء: 24)، وحين زعم بعض اليهود أن الله حرم عليهم بعض الطعام، واستندوا في زعمهم إلى التوراة، خاطبهم الله بقوله: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران: 93).
ثالثاً: البرهان التاريخي:
وهو البرهان الذي يقوم على أساس الرواية الموثقة عن أحداث سبقت، أو عن مشاهدة للآثار التي خلفها أهلها في الأرض، المعبرة بلسان الحال عما كانوا عليه من قوة وسطوة وعمارة للأرض، وفي ذلك يقول تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأحقاف: 4)، فهذه الأثارة من العلم تشير إلى التاريخ.
كما أشار القرآن الكريم إلى البرهان التاريخي في قصة قارون حين زعم أنه أوتي المال على علم عنده، فقال تعالى: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا) (القصص: 78)، ومن هذا البرهان أيضاً ما تحدث به الله تعالى عن قوم عاد، حيث قال عز وجل: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) (فصلت: 15).
رابعاً: البرهان النظري أو العقلي:
وهو البرهان القائم على المنطق العقلي، الذي يبدأ بالنظر في الأشياء والاستدلال بها من خلال العقل والمنطق على صحة الدعوى أو بطلانها، وهو البرهان الذي طالب القرآن به المشركين أن يقيموه على صحة شركهم، حيث قال تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) (الأنبياء: 24)، وقال عز وجل: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل: 64)، وفي هذه البراهين ما يؤكد أن الفكرة المطروحة مقبولة أو مرفوضة من خلال العقل والمنطق والتاريخ والمشاهدة الحسية.
______________________
(1) لسان العرب: ابن منظور (13/ 51).
(2) التعريفات: الجرجاني، ص 44.
(3) العقل والعلم في القرآن الكريم: د. يوسف القرضاوي، ص 271.