تمر الأمة الإسلامية بمحنة عظيمة، ونازلة ليس لها إلا أمة متيقظة تستطيع دفع البلاء بقوة إيمانية جبارة تستلزم معية الله في كل وقت وحين، والرضوخ لأوامره وتجنب نواهيه قربة لله ليرفع عنها البلاء الكبير، والانتكاسة غير المسبوقة في تاريخها القديم والحديث.
ومع حالة الضعف والتشرذم والتبعية التي تمر بها الأمة مما ضاعف محنتها لزم إلى جانب العمل الدؤوب على إخراجها من محنتها تلك إلى عبادة أخرى لا يمكن بحال أن تستغني عنها، ألا وهي الدعاء؛ لما له من أهمية ليس لقبول وتيسير العمل وحسب، وإنما لطلب العون الرباني الزم للخروج من المحنة في ظل تكالب العالم على الأمة واستسلامها له.
عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الدعاء هو العبادة»، ثم قرأ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر: 60) (رواه أحمد).
أهميته في رفع البلاء والمحن
سن الله عز وجل الدعاء كمنحة ربانية لرفع البلاء المقدر على الأمة ليلجأ الخلق إليه سبحانه بعبادة مقربه له عز وجل يتحقق فيها معنى العبودية والخضوع لخالق الكون، فيقول تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، ويقول تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)، وقال تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل: 62).
وروى الترمذيُّ بسند حسَن من حديث سلمان الفارسي، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يردُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ»، ويقول ابن القيم في علاقة الدُّعاء بالبلاء: والدُّعاء من أنفع الأدويةِ، وهو عدوُّ البلاء، يدافِعه ويعالجه ويمنع نزولَه، ويرفعه أو يخفِّفه إذا نزل، فالدُّعاء عدوُّ البلاء.
ويقول د. على الصلابي، في حديث له عن أهمية الدعاء لدفع البلاء: ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم عند انعقاد أسباب الشر بما يدفع موجبها بمشيئة الله تعالى وقدرته من الصلاة والدعاء والذكر، والاستغفار والتوبة، والإحسان بالصدقة والعتاقة، فإن هذه الأعمال الصالحة تعارض الشر الذي انعقد سببه، كما في الحديث: «إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض فيعتلجان»، وهذا كما لو جاء عدو فإنه يدفع بالدعاء وفعل الخير وبالجهاد له، وإذا هجم البرد يدفع باتخاذ الدفء، فكذلك الأعمال الصالحة والدعاء.
حاجة الأمة إليه
ومحنة الأمة اليوم ليست هي الأولى من نوعها على شدتها وعمقها وطول سنواتها، فتاريخ الأمة يشهد بحالات من الضعف يليها العديد من المؤامرات ومحاولات الاجتياح الصليبي تارة والتتري تارة أخرى، وبالرغم من ذلك استطاعت الأمة في كل كبوة أن تنهض مهما بلغت تلك الكبوة، ومن أمثلة ذلك حين دخل التتار بلاد المسلمين وأبادوا بغداد عاصمة الخلافة العباسية في ذلك الوقت بتآمر صليبي.
إن المحنة التي نمر بها اليوم إذن لم تكن الأولى ولن تكون، لكن الله تعالى قيض للأمة وقتها جناحي النصر فخرجت بقدرته سبحانه من محنتها الدموية، قائد جيش عظيم، برعاية داعية عظيم، فجمع القوة الإيمانية، وقوة العتاد، ووقف الشيخ ابن عبدالسلام داعياً على المنابر، لجيش انطلق من مصر ليصل لعين جالوت ولا يعود إلا وقد انتهت قصة التتار من بلاد المسلمين.
والمحنة اليوم قد نراها بعين المستضعفين قد أنهت الأمة وأتت عليها من شدة المعارك الدائرة شرقاً وغرباً، وكثرة المرتقين شهداء بأرض المسلمين المقدسة، لكن لله كلمة أخرى وقد فتح أبواباً من الأمل عبر عبادة الدعاء، وعبادة الدعوة إلى الله وإيقاظ المسلمين ليعرفوا حجمهم وقيمة دينهم الذي يمكن به أن يصيروا قادة للعالم، وصدق الخليفة عمر بن الخطاب حين قال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله
الدعاء عهد الأنبياء والصالحين
كان ديدن الأنبياء وختامهم محمد صلى الله عليه وسلم الدعاء مع بذلهم كافة الجهود المتاحة بأساليب شرعية، ويوم «بدر» وقف النبي صلى الله عليه وسلم وسط المعركة داعياً الله عز وجل بينما المؤمنون قلة قليلة يقول سبحانه عنهم: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران: 123).
فعن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعْبد في الأرض»، فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال: 9)، فأمده الله بالملائكة) (رواه مسلم).
فالدعاء دائماً كان سلاح المظلومين حين تنقطع السبل، وحين تعجز الأمة عن رد اعتبارها، وحين تقع فريسة عدو لا يعرف الرحم صدق فيه قول رب العالمين: (كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة: 8).