لم يكن أمراً عفوياً أن يجعل الإسلام من الخطبة عبادة مفروضة كما هي حال خطبة يوم الجمعة مثلاً، أو مسنونة كما في العيدين الفطر والأضحى، فهذا مما يحمل دلالة مهمة تؤكد إلى أي مدى منح الإسلام الخطبة مكانة عالية ورفيعة كونها واحدة من أهم وسائل الدعوة التي هي مهمة من مهام الأنبياء، ووظيفة من وظائف قادة الأمم من المصلحين والصالحين والخلفاء والعلماء، التي يمكن عبرها أن تكون عملية الإرشاد والتوجيه للأفراد والمجتمع كله، ومن ثم إحداث التأثير لتتغير الأفكار بما يتوافق مع تعاليم الإسلام وتوجيهاته، وتحث المسلمين في كل مكان على التفاعل مع تطلعاتهم وهمومهم.
شروط الإثابة
ولعل هذه المكانة وهذه الأهمية هي ما دفع الإسلام إلى أن يجعل التحصل على الثواب الكامل لأداء صلاة الجمعة ذاتها مرهوناً بساعة الحضور المبكر للمسجد وقبل صعود الخطيب للمنبر، وليس لمجرد أداء صلاة ركعتي الجمعة، وهو ما يعني الحرص الكامل على التهيؤ الجيد للاستماع للخطبة ومنذ كلمتها الأولى.
بل إنه جعل عدم المسارعة لذلك ولو بالانشغال بالتجارة والربح هو من المخالفة للأمر الإلهي الخاص بالسعي إلى ذكر الله عز وجل حيث قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {9} فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة).
وبالطبع، فإن مجرد الحضور للخطبة منذ بدايتها ليس هو مقصود الإسلام أو طريق الحصول على الثواب، إذ يمكن لبعض المسلمين أن يحرصوا على التبكير دون أن يلتفتوا أو يعطوا اهتماماً حقيقياً لما يلقيه الخطيب، وهو ما يرفضه الإسلام، فالمسلم مطالب خلال خطبة الجمعة بأن يلتزم الصمت واليقظة والانتباه، فلا يشغله عن متابعتها أي شيء ولو كان مساً للحصى الذي يجلس فوقه؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من مسَّ الحصى، فقد لغى» (رواه مسلم)، ويقول أيضًا: «لا يغتسل رجل يومَ الجمعة ويتطهر ويدهن ويتطيب ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب الله له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» (رواه البخاري).
وعليه، فإن الانشغال بغير الخطبة وما يلقيه الخطيب -ولو كان ربحاً أو أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر- هو مما يتنافى تمامًا مع ما أراده الله عز وجل من هذه الخطبة؛ إذ إن الهدف الأساسي هو أن يستحضر المسلم قلبه ويعمل فكره فيما يسمع من المواعظ والتوجيهات لعله يرجع بنتيجة ظاهرة وفائدة كبيرة يبقى أثرها معه طوال حياته، وإلا فإن وقت الخطبة يصبح شيئاً من العبث وتضييع الوقت يتساوى في ذلك مع هذا الذي أتعب نفسه في جوع وعطش يزعم أنه صائم في حين أنه لم يغض بصره ولم يصن لسانه ولم ينأَ بنفسه عن ارتكاب ما حرم الله فما كان له من صيامه إلا ما عاناه.
سرقة الجمعة
إذا كانت هذه هي نظرة الإسلام للخطبة، وهي النظرة التي تتسم بكل هذا القدر من التقدير، فهل من المنطقي بعد كل ذلك ألا يكون كل من الخطيب والخطبة بالمستوى اللائق؟ بالطبع يكون من غير المنطقي أن يمنح المرء وقته واهتمامه لمن لا يستحق خاصة في خضم ضغوط الحياة المتزايدة والمغريات الملهية اللامتناهية، فخطبة الجمعة المقصودة إذن لا بد أن تكون ذات قيمة في شكلها وموضوعها وأثرها فضلاً عن الناطق بها.
غير أنه وعلى الرغم مما سبق، فإن ثمة حقيقة مؤسفة تتجسد في عدم إدراك الكثير من الخطباء لأهمية الخطبة وطبيعتها، وهو ما كان سبباً رئيساً في أن تتحول خطبة الجمعة من فاعلية إسلامية مهمة إلى شيء ثقيل على القلب، يذهب إليه البعض ليس إلا من باب تأدية الواجب الاضطراري دون استحضار مشاعر الإقبال الواجبة، فتجد بعضهم وقد أخذه النعاس خلالها، أو انتهزها فرصة في مراجعة حساباته المالية، أو استسلم لشرود ذهنه يفكر بعيداً في غير موضوعها، فيتدبر ماذا يفعل في كذا وكذا من أموره الحياتية.
وليست تلك الحالة بالأمر الخفي، بل هو مما عم به البلاء حتى إن الكثيرين ممن حسنت نوايا بعضهم أو ساءت قد أنكروا ما آلت إليه أحوال الخطبة والخطباء، معتبرين أن ذلك بمثابة «سرقة للجمعة».
والواقع أن هذه الحالة بالفعل لا تقل عن فعل السرقة إن لم تكن أخطر منها، فهي أولاً تضييع لأوقات الملايين من المسلمين الذين يقتطعون من أوقاتهم للاغتسال والاستعداد للذهاب للمساجد مبكراً، ليس للعبادة المتمثلة في أداء صلاة ركعتي الجمعة فحسب، بل للتعبد أيضاً بالإصغاء والتأمل في خطبة الجمعة، فإذا هم بخطباء ليسوا مؤهلين لا على المستوى السلوكي ولا على المستوى العلمي ليقفوا على المنبر وهو ما باعد الثقة بينهم وبين المتلقين.
ويزيد الطين بلة أن بعض هؤلاء الخطباء لا يكتفون بالتعاطي مع الخطبة من منطلق وظيفي يلتزمون خلاله بالتعليمات والتوجيهات السلطوية، بل إنهم مع ذلك يهملون التحضير والإعداد الجيد للخطبة، فتخرج مفككة لا رابط بين عناصرها فتصيب المستمع بالملل وعدم التركيز، فيما أن بعضهم لا يحسن اختيار مواقيت ومناسبات موضوعات الخطبة؛ وهو ما يثير الاستياء ويجعل من الخطبة كلامًا بعيدًا عن تلك المشاعر التي تأهبت النفس لاستقبالها فتنعدم الفائدة.
رؤية معاصرة
لا يمكن لأحد أن يقلل من قيمة أي توجيه إسلامي، لكن ثمة اعتبارات يجب أن تراعى في تقييم المقام وواقع الحال، فلكل مقام مقال، وعليه؛ فإن الشعور بأن الخطبة والخطيب في برج عاجي هو أشر ما يمكن أن يصيب الخطبة، إذ الخطبة التي لا تمس حياة الناس وواقعهم والإشكاليات الحقيقية والواقعية التي يعيشونها هي أقرب للسفسطة والاستعراض الثقافي منه للوعظ والإرشاد والتوجيه وما وجب من تحديد الرؤى وطرح الحلول والمعالجات الإسلامية.
ولعل أهم ما يبرز في هذا الصدد ضرورة أن يستحضر الخطباء خلال خطبهم أن المجتمعات الإسلامية لم تعد على عهدها السابق في القرون الماضية من حيث محدودية وصعوبة المتابعة لما يجول في المجتمعين الإسلامي والدولي، فالطفرة الرهيبة في وسائل التواصل والإعلام مكنت كل فرد من مطالعة ما يجري وبرؤى متعددة ومتباينة يحتاج معها المرء لأن يهتدي للرأي الأصوب والأقرب للإسلام، وهو ما يمكن أن يجده في خطبة الجمعة.
كذلك، ومع الفائدة الحاصلة من تنوع وسائل العلم والمعرفة، إلا أن ذلك كان له نتائجه السلبية من حيث الرواج المتعمد لبعض الأفكار العقدية والفلسفية التي ربما تتناقض مع الإسلام؛ ما يوجب على الخطباء القيام بدورهم في الرد على هذه الأفكار وبذل ما في وسعهم لتفادي اعتقاد البعض بها.
كما أنه ليس أقل من ضرورة أن يعي الخطباء أهمية وسائل الإبهار والجذب والتجديد، معتبرين أنفسهم في معركة حامية الوطيس مع المغريات الملهيات التي تتهافت على استقطاب الجمهور؛ بما يعني ألا يكتفوا بالاعتماد على الدافع الديني بوجوب صلاة الجمعة.