لقد أعلى الإسلام من قيمة العقل، وأولاه عناية بالغة، فجعله مناط التكليف، وجاء الخطاب الإيماني في القرآن الكريم قائمًا على الإقناع العقلي، باستثارة العقل في التفكر والتدبر والتأمل في آيات الله الكونية، والتعرف على أحوال الأمم السابقة مع الرسالات من خلال آثارهم وأخبارهم لتكون مادة للعقل يتدبرها فيهتدي إلى سواء السبيل.
العقل أحد الضروريات الخمسة التي عني الإسلام بحفظها، وهي: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ العرض، وحفظ المال.
ومن صور عناية الإسلام بالعقل وحفظه، أن التشريع الإسلام جاء مانعًا ومحرمًا لكل ما يضر بالعقل، فحرم المسكرات التي تذهب بالعقل وتغيبه وتجعل صاحبه حال تعاطيه سفيهًا أشبه بالمجنون الذي لا يعقل، ويكون عرضة لارتكاب الموبقات والإضرار بالآخرين.
ومن عظم قدر العقل، جُعلت الدية الكاملة على من ضرب غيره فأضر بعقله، وقد نص ابن قدامة رحمه الله في المغني أنه لا خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة(1).
هناك صورة أخرى من صور حماية الإسلام للعقل، قد يرى فيها بعض قاصري الأفهام نوعًا من الحجر على العقل، وهي تحديد الإسلام للعقل المجالات التي يخوض فيها، صيانة له من الضلال، إذ إن العقول قاصرة عن مطلق الإدراك، يقول الإمام الشاطبي: «الله جعل للعقول في إدراكها حداً تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون»(2).
ولو أن للعقل قدرة على إدراك كل شيء لكان في ذاته حجة على الخلق ولم يكن هناك حاجة إلى الرسالات والمرسلين الذين تقوم بهم الحجة على العباد؛ (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء: 15).
الغيبيات تقع في نطاق المجالات التي لا يدركها العبد بعقله، فالعقل في إدراكه يبني على معطيات ومقدمات محسوسة ليتوصل بها إلى النتائج، أو يصل إلى الإدراك من خلال الخبرات والتجارب، بينما لا سبيل له إلى إدراك الغيبيات التي لا يمكن معرفتها إلا من خلال الوحي.
فمن ذلك ماهية الروح، جاءت النصوص بإثباتها وهو ما يجب الإيمان به، لكن الوقوف على ماهيتها هو أمر يفوق إدراك العقول، لذلك أنزل الله تعالى على نبيه عندما سأله اليهود عن الروح: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (الإسراء: 85).
بناء على ذلك، إذا حاول أحدهم من خلال إعمال عقله في تحديد ماهية الروح، يكون قد تجاوز بعقله الحد، وخاض فيما ليس له سبيل إلى إدراكه.
ومن ذلك صفات الله عز وجل، يتدخل العقل في فهم معانيها وتدبرها، لكنه عاجز عن إدراك كيفيتها، لأننا لم ندرك ذاته الله تعالى فمن ثَم لا نستطيع أن ندرك كيفية الصفة، فالعلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، لذلك عندما سُئل الإمام مالك عن صفة الاستواء على العرش قال: «الاستواء غير مجهول (أي معلوم من خلال الوحي)، والكيف غير معقول (أي لا تدركه العقول كيفيته)، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»(3)، وهكذا يقال في جميع صفات الله عز وجل.
كذلك لا دخل للعقل في تحديد الإطار التعبدي؛ لأن العبادات التي جاءت بها الشريعة موقوفة عليها، فلا يسوغ للعقل أن يخترع عبادة ما يستحسنها، فلا بد أن تكون العبادة موافقة تماماً لما جاءت به الشريعة، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رد»(4).
وفي المجمل، فإن العقل مطالب للتسليم المطلق للنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، ولو لم يدرك الحكمة منه، ولو لم يقتنع به، فحينها لا يجوز له التدخل، والأصل أن النصوص الصحيحة لا تتعارض مع العقل الصريح، وأي توهم للتعارض فإنه قصور في العقل لا النص، وهنا يؤصل ابن تيمية هذه المسألة فيقول: «فيأخذ المسلمون جميع دينهم من الاعتقادات والعبادات وغير ذلك من كتاب الله وسُنة رسوله وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وليس ذلك مخالفاً للعقل الصريح، فإن ما خالف العقل الصريح فهو باطل، وليس في الكتاب والسُّنة والإجماع باطل، ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس أو يفهمون منها معنى باطلاً، فالآفة منهم لا من الكتاب والسُّنة»(5).
إن احتياج العقل إلى عامل خارجي هو أمر بديهي، وهذا مشاهد في اعتماده واحتياجه إلى مقدمات ومعطيات حتى يصل إلى نتائج، وبدون هذه المعطيات والمقدمات فإن العقل عاجز عن الوصول إلى نتيجة سليمة، فكيف لو كان الأمر متعلقاً بالعقيدة والغيبيات والتشريع!
الاستبداد بالرأي مقابل النص هو أول شبهة وقعت للخلق، وهي شبهة إبليس عندما عارض برأيه نصاً قطعي الثبوت والدلالة؛ وهو الأمر المباشر من الله تعالى بالسجود إلى آدم، فعارض برأيه الفاسد ذلك النص فطُرد من رحمة الله.
الإسلام ترك مساحة واسعة لإعمال العقل، فهو أداة لفهم النص وآيات الله الكونية والشرعية، ويبرز دوره في المسائل الاجتهادية التي ليس فيها نص صريح الدلالة، كذلك في مسائل المعاملات والشؤون العامة التي وضع الإسلام لها خطوطاً عريضة، وترك فيها التفاصيل للعقول السليمة، كأمر الشورى، نص عليه الإسلام كمبدأ عام، لكن صورته وكيفيته وأعداد أهل الشورى ونحو ذلك تركه للاجتهاد.
أما أن يجعل المرء عقله حاكمًا على الشرع، فليس هذا من عمل الذين استسلموا لربهم وانقادوا له، إنما الوحي سياج حافظ للعقل لكي لا يضل، وما ضل كثير من البشر إلا من جراء تقديس العقل والغلو فيه، وتقديمه على الوحي.
_____________________
(1) المغني لابن قدامة (8/ 465).
(2) الاعتصام للشاطبي (2/ 831).
(3) الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 306).
(4) رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718).
(5) مجموع الفتاوى (11/ 490).