ظهر الإسلام في أمة أمية، قلَّ حظها من العلم، وحكمتها تقاليد موروثة قعدت بها عن مراقي التحضر ومطالع النور، فجاء الإسلام ليصوغ هذه الأمة صوغاً جديداً لتغدو خلقاً آخر؛ سيقود العالم قروناً من الزمان، وليقدم في تراثه العلمي منظومة من الضوابط والقيم، ومن الأهداف والأساليب لا تزال منهلاً صالحاً للإفادة منه في عصرنا الحديث.
وسوف نتناول هنا بعض الأهداف والضوابط الناظمة للتعليم في تاريخنا الإسلامي مما يجب استحضارها لتقويم واقعنا التعليمي المتراجع.
الأهداف التعليمية في الإسلام
– تحقيق الاستخلاف:
الهدف الرئيس لطلب العلم وأدائه وتوظيفه في الإسلام هو إعداد الإنسان ليكون صالحاً للخلافة عن الله في الأرض، قائماً بمنهجه، (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، وأول ما يهدم المنظومة التعليمية في الأمة هو التباس الأهداف واضطرابها، أو غيابها وافتقادها، ولا بد من تحديد أهدافها بما يحقق هويتها، ويحفظ كينونتها.
لقد قاد وضوح الأهداف إلى تأكيد الدور الرسالي للعلم الذي أنيط بخير أمة أخرجت للناس، فكان العلماء قادة الأمة وزعماء الفتح وطلاب الشهادة وصناع التاريخ والشهود على العالمين.
الهدف الرئيس لطلب العلم في الإسلام إعداد الإنسان ليكون صالحاً للخلافة عن الله في الأرض
– تكوين العقلية العلمية:
يظل تكوين العقلية العلمية المقصد الرئيس وفق أولويات الطلب والتشكيل، وهو مطلب عزيز في عصرنا، في عالمنا العربي الذي ظل قروناً رهين الجهل والخرافة، تلك العقلية التي تتبع المنهج العلمي، وتأبى الجمود والتقليد، وتجل أهل الخبرة والمعرفة في كل أمر، ولا تقبل دعوى بغير دليل، ويجعل التصديق ناتج البرهان.
ضوابط الحراك العلمي في الإسلام
– تحقيق الإخلاص في طلب العلم:
لقد انبثقت المنظومة العلمية في الإسلام عن عقيدة صبغتها في جميع أجزائها؛ (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ) (البقرة: 138)، (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق: 1)، وهذا أول ما ينبغي أن نفيده من التراث التعليمي للأمة، أن نربط التعليم بالعقيدة، وهو ارتباط يبدو متغلغلاً في صميم منظومته، حيث كل عمل لا يبدأ باسم الله فهو أبتر، وكل نية مدخولة في طلب العلم باطلة وماحقة، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه؛ أدخله الله جهنم»(1)، واستحضار الأجر الإلهي الجزيل دافع إلى الجد في الطلب، فإن «مَن سلَكَ طريقاً يلتَمِسُ فيهِ علماً، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقاً إلى الجنَّةِ..»(2).
ترتيب الأولويات أهم ما نحتاجه في تعليمنا اليوم فقد كانت العناية بالقرآن حفظاً وعملاً على رأس ذلك
– العلم يهتف بالعمل:
قال سفيان الثوري: العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل، وهو واقع الصحابة الكرام، فقد كانوا يأخذون من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، فتعلموا العلم والعمل معاً(3).
– تحري نفع العلم:
وذلك يسلمنا إلى اشتراط نفع العلم ليستأهل بذل الأعمار في طلبه، قال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد: 17)، ونحن في عصر علت فيه شعارات «العلم للعلم»! وبالرغم من أن للعلم لذته الذاتية، فإن صلاحيته للنفع، وتوظيفه لتحقيق الاستخلاف الذي خلق الإنسان لأجله تبقى اللذة الأرقى، وقد قال سبحانه عن أقوام تعلموا السحر: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ) (البقرة: 102)، والقول ينسحب على علوم عديدة جرى تسخيرها لتحقيق استعلاء أصحابها بغياً وعتواً.
– مراعاة الأولويات في منظومة التعليم:
ترتيب الأولويات من أعظم ما نحتاجه في تعليمنا اليوم، فقد كانت العناية بالقرآن حفظاً ومدارسة وعملاً على رأس ذلك؛ حتى نهى عمر بن الخطاب عن شغل الناس عن القرآن؛ ولو برواية الأحاديث النبوية على جلالة طلبها(4).
والأمة المنشغلة بهموم البناء، وأداء الرسالة، وأعباء الدفع والجهاد؛ تضن بجهودها أن تتبدد فيما لا فائدة منه، وقد كرهوا في صدر الإسلام السؤال عما لم يقع، وعن عمر: «أحرِّج عليكم أن تسألوا عما لم يكن، فإن لنا فيما كان شغلاً»(5).
– ضرورة توريث العلوم وامتداد المدارس العلمية:
حفل تراثنا التعليمي بالحرص على توريثه ممزوجاً بالصلاح، فقامت مدارس علمية عتيدة شيدها رواد من العلماء ومخلصون من تلاميذهم، وكتب لبعضها الخلود حتى اليوم، فنشأت المدارس الفقهية الكبرى، والمدارس العقدية والكلامية، والمدارس الأدبية والنقدية.. وغيرها.
من الظواهر المهمة في التراث العلمي الإسلامي وجوب استقلالية العلم والعلماء عن هيمنة السياسة
وورث المسلمون حضارات كبرى كانت لها عطاءاتها العلمية والفكرية، فلم يقفوا منها موقف المستعلي المتكبر، أو المنبهر المأسور، بل أخذوا ما رأوه صالحاً، وأضافوا إليه، وأبدعوا في مجاله، وتدل خبرة التاريخ أن مساحة من التفاعل مع ميراث الأمم السابقة كانت سلبية، واختصت بعض العلوم الإنسانية بمعظم ذلك، ومنها الفلسفات التي جلبت على الفكر الإسلامي ولعاً بالجدل والتشفيق والافتراضات، والانشغال بمباحث من الميتافيزيقا والغيبيات كان المسلمون في غنى عنها، وانفتح علماؤنا تجاه الأمم التي جاءت تطلب العلم من مساجدهم وجامعاتهم، فتأسست على علومهم نهضات هذه الأمم، وشيدت حضاراتهم.
– الجمع بين الموسوعية والتخصص:
كانت مناهج العلوم الإسلامية في بداياتها تجنح نحو الموسوعية، فكان العالم يجمع بين علوم التفسير والحديث والفقه والعقيدة والتاريخ وغيرها، وقد أخرجت لنا هذه الظاهرة أفذاذاً من العلماء، مثل: ابن عباس، والطبري، والمسعودي، وابن حزم، وابن رشد، وامتد ذلك إلى عصور متأخرة عند ابن تيمية، وابن خلدون، وابن حجر، بينما تخصص علماء آخرون في علومهم، كالبخاري، ومسلم، والطبراني.
– ضرورة استقلال العلم عن هيمنة السياسة:
من الظواهر في التراث العلمي الإسلامي التي ينبغي الإفادة منها في عصرنا وجوب استقلالية العلم عن هيمنة السياسة، بخاصة في ظل الأنظمة القمعية المستبدة، التي تقبض على ناصية العلوم ومؤسساتها.
لقد تكفلت الأمة في زمن ازدهارها برعاية علمائها، وقام نظام الوقف الإسلامي بدور رائد في ذلك الشأن، وهذا القول لا يغفل دور الحكومات الإسلامية في خدمة العلم وتيسير طلبه، وتشييد معاهده، وتكريم علمائه.
وبالرغم من هذه الحقائق، لم يخل تاريخنا من ممارسات السوء التي اقترفها بعض الحكام في حق العلماء، ومحاولة الهيمنة عليهم لما امتازوا به من أدوار ومكانة عند الأمة، وقد أخبرتنا صحف التاريخ عن علماء خالدين كانوا أوفياء لدينهم وأمتهم، معتصمين بدينهم في مواجهة ضغوط السياسة، منهم أبو حنيفة، ومالك، وابن تيمية، والعز بن عبدالسلام.
______________________
(1) أخرجه أبو داود (3664)، وأحمد (8457) بمعناه، وابن ماجه (260).
(2) أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (21715).
(3) ابن حنبل: المسند (38/ 466).
(4) البيهقي: معرفة السنن والآثار، ص 147.
(5) الخطيب البغدادي: الفقيه والمتفقه (2/ 12-13)، ابن حجر: فتح الباري (13/ 266).