من الأمراض الاجتماعية التي يمكن أن تصنع عداء بين أبناء المجتمع الواحد، وتصنع مشاحنات لا تصح داخل المجتمع المسلم والنفوس المسلمة «الانتقام»، الذي يقول فيه ابن القيم: «فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة»(1).
وقد حذر الله عز وجل عباده أن يردوا الاعتداء إلا بمثله، فيقول تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 194)، وفي فضل العفو عند الغضب يقول تعالى: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هَمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى: 37)، ويقول تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: 40)، وفي الآيةِ حَثٌّ على العَفوِ؛ لأنَّ الانتصارَ إنَّما يُحمَدُ إذا حصَلت المماثلةُ في الجزاءِ، وتقديرُها عَسِرٌ شاقٌّ، وربَّما صار المظلومُ حينَ استيفاءِ القِصاصِ ظالِمًا.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها» (رواه البخاري، ومسلم)، وعنها رضي الله عنها قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل» (رواه مسلم).
وعن عياض بن حمار قال: قلت: يا نبي الله، الرجل من قومي يشتمني وهو دوني، أفأنتقم منه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان»(2)؛ وقوله: «يتهاتران»؛ أي: كل منهما يتسقط صاحبه وينتقصه؛ من الهتر والسقط من الكلام، وهو الباطل من القول، وقيل: أي: يتقاولان ويتقابحان، وقد قيل: لا تجوز مقابلة السب بالسب، وكذا سائر المعاصي، وإنما القصاص والغرامة على ما ورد به الشرع، وقيل: تجوز المقابلة فيما لا كذب فيه، والأفضل تركه(3).
الأسباب والدوافع
من أكثر الدوافع التي تؤدي إلى الانتقام ضعف الإيمان، وعدم استحضار الأجر العظيم للعافين عن الناس، فالإيمان الحاضر يجعل صاحبه أكثر هدوءاً، وأكثر تقبلاً للصفح في حال المقدرة، وكلما تمكن الإيمان من القلب؛ زادت قوة الصفح عند العبد المؤمن، ولذلك فإن من أسباب الوقوع في الانتقام:
1- ضعف الإيمان بالقلب.
2- ما ينبني على ضعف الإيمان من سلوكيات مثل ضعف الصبر وضعف القدرة على العفو، والضعف أمام كظم الغيظ.
3- الغضب السريع الناجم عن خبث النفس والكبر على الناس، قال ابن عاشور: فإن الغضب من سوء المعاملة من طباع النفس، وهو يبعث على حب الانتقام من المسيء(4).
4- تمكن الأمراض القلبية من الإنسان مثل الحقد والكراهية والكبر.
5- ومن أكثر أسباب الرغبة في الانتقام غياب العدالة في المجتمع وعدم القصاص للمظلوم.
الوسائل المعينة
1- أن يتذكر المسلم قدرة الله عليه حين يكون قادراً على الانتقام ممن أخطأ في حقه.
2- استحضار قيمة العفو والصفح وسلامة القلب، فحلاوة الصفح أكثر لذة من حلاوة الانتقام.
3- استحضار أجر كظم الغيظ وما ينتظره من غنم عظيم، يقول تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ {133} الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران).
4- علمه بأن الانتقام ليس نهاية المسألة، وإنما بداية فتح باب لمزيد من الشر والخصومة.
5- تعهد القلب بعلاج أمراضه الدافعة للانتقام مثل الكبر.
6- تذكير النفس بالرغبة فيما عند الله، وليس في عاجل العقوبة.
7- تعويد اللسان على ذكر الله دوماً، ووقت الغضب يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويغير من وضعه؛ «فإن كنت قائماً فاجلس، وإن كنت جالساً فاضطجع، ويستحب أن يتوضأ بالماء البارد؛ فإن الغضب من النار، والنار لا يطفئها إلا الماء»(5).
وأخيراً، فالمجتمع المسلم مجتمع طاهر نظيف متآلف متحاب، لا يجوز فيه رد الإساءة بإساءة أكبر منها أو مثلها، وإنما ترد إما بالعقاب اللازم تربوياً لتأديب نفس المسيء كي لا يعود إليها مرة أخرى، أو بالعفو والصفح إن لم تتوفر نية الإساءة وتعمدها مسبقاً، وطالما كانت هناك قدرة على الرد، فالعفو المطلوب هو العفو عند المقدرة، وليس صفح المقهور والعاجز عن أخذ حقه بالحسنى أو بغيرها، إن المسلم عزيز، ورحيم في ذات الوقت، لا يقبل المهانة، ولا يقبل الضيم، ولا يرضى أن يكون ظلوماً تحت أي دعوى.
______________________
(1) مدارج السالكين (2/ 303).
(2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
(3) فيض القدير للمناوي (6/ 267).
(4) التحرير والتنوير (24/ 292).
(5) موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين للقاسمي، ص 208.