أصدر فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن نصر الداية أستاذ الفقه وأصوله في الجامعة الإسلامية بغزة عميد كلية الشريعة والقانون فيها، سابقا، مقالة بتاريخ 4 جمادى الأولى 1446هـ الموافق 6 نوفمبر 2024م، جاءت في خمس عشرة صفحة، يقول فيها للقيادات الحركية والسياسة، بعنوان: “أيها الساسة: أوقفوا هذا المد”، ويعني بذلك قادة حركة حماس بالدرجة الأولى، ويعني بالمد: المد المستمر في إزهاق الأرواح، وإسالة الدماء، وهدم البنية التحتية للمجتمع.
والذي دعا فضيلته لكتابة هذه المقالة ما أورده في صدرها من قول بعض القادة السياسيين، قال أحدهم:
(أَيُّهَا الْإِخْوَةُ، أَيَّتُهَا الْأَخَوَاتُ: قَدْ يَتَحَدَّثُ الْبَعْضُ مِنَ الْجُبَنَاءِ وَالضُّعَفَاءِ: أَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَسْلَمِ أَلَّا نُقَاتِلَ، وَأَنْ نَقْبَلَ بِالْوَضْعِ الَّذِي كَانَ قَائِمًا بَدَلَ أَنْ نَفْقِدَ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ؟ قَدْ يَقُولُ ذَلِكَ بَعْضُ المُغَفَّلِينَ.
لَكِنَّنِي أُصَارِحُكُمُ الْقَوْلَ: إِنَّ مَنْ يُطْلِقُونَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا تُحَرِّكُهُمْ غُرَفٌ سَوْدَاءُ تَرْتَبِطُ بِعَدُونَا، رُبَّمَا تَسْتَقِرُّ فِي بَعْضٍ عَوَاصِمِنَا، لَكِنَّهَا تَرْتَبِطُ بِعَدُوِّنَا، وَمَهَمَّتُهَا أَنْ تُضْعِفَ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَعُلُوَّ هِمَّتِهَا، وَفِيهِمْ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ [التوبة: ٤٧].
وَخَلَّيْنَا نَتَكَلَّمْ بِوَاقِعِ بَسِيطٍ : عَامَ 2022م ؛ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ عَمَلِيَّةُ طُوفَانِ الْأَقْصَى، وَلَمْ تَكُنْ تُقَاتِلُ الْمُقَاوَمَةُ فِي الضَّفَّةِ، فِي هَذَا الْعَامِ وَحْدَهُ 500 شَهِيدٍ عَلَى حَوَاجِزِ جَيْشِ الِاحْتِلَالِ فِي الضَّفَّةِ فَقَطْ، بِمَعْنَى: أَنَّ الضَّرِيبَةَ تُدْفَعُ، لَكِنْ! عَلَيْكَ أَنْ تَخْتَارَ أَنْ تَدْفَعَهَا حُرًّا مُجَاهِدًا مُقَاوِمًا مُنْتَصِرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، أَوْ أَنْ تَدْفَعَهَا ذَلِيلًا خَائِبًا خَاسِرًا”. ا.هـ.
وقوله في تصريح آخر: “ما لازم حدا يتخيّل أنّ التّضحيات أن يستشهد الشّعب أو تستشهد النّساء والأطفال، التّضحيات أوّلاً يجب أن تنظر إليها في صفوف المقاتلين والمجاهدين، وفي صفوف القيادة”!!
وآخر يقول: “نحن على استعداد أن نكون كأصحاب الأخدود”!!
وقال آخر: “إنّ خسائرنا تكتيكيّة، وخسائر عدوّنا استراتيجيّة”!
وصرّح آخر بطمأنينة وارتياح: “أنّ رأس مالهم الأساسيّ هو الشّعب الفلسطينيّ، وأنّها ورقة ضغط في أيديهم، حتّى لو قتل المحتلّ عشرين أو مائة ألف آخرين”!!
وقول قائل منهم: “إنّ جلّ أهل قطاع غزّة من اللّاجئين، وإنّ مسؤوليّة حفظهم منوطة بالاحتلال، والأمم المتّحدة”!!
وراح فضيلة الشيخ يُذكّر القائل الأول بأن للجهاد القتالي أركانًا وأسبابًا وشروطًا ومقاصدَ وموانعَ:
فمن أركانه: القائد، والجند، والأرض، والسلاح، والمحارب.
ومن أسبابه: العدوان على الدّين، أو النّفس، أو العرض، أو الأسر، أو الأرض، أو المال.
ومن شروطه: الإيمان والإخلاص، وصلاح الأنفس، واجتماع الكلمة، ورصّ الصّفّ، وتأهيل الجند، وقوّة الشّوكة، وتأمين الأجناد طعامًا وشرابًا ودواءً ولباسًا، وثغورًا وملاذًا آمنًا بعيدًا عن البيوت المأهولة، والأبراج المسكونة، والمدراس المزحومة، والمشافي المكتظّة، وسبل امّداد بالعدد والعتاد والأجناد، والابتعاد غاية الوسع عن الآمنين وأماكن إيوائهم، وتوفير أسباب الأمن والسّلامة للآمنين ما أمكن ذلك في مناحي الحياة المختلفة.. الأمنيّة، والاقتصاديّة، والصّحّيّة، والتّعليميّة، وادّخار المؤن الّتي تكفيهم مدّةً زائدةً عمّا يتوقّعه أهل الرّأي والمشورة في شأن الحرب.
ومن مقاصد الجهاد الّتي شُرع لأجلها: دفع الأخطار عن الدّين، والأنفس، والأعراض، والذّراريّ، والأموال، وفكّ الأسرى، وتحرير المسرى، وحفظ دور العبادة، وتأمين الحدود، والسّيطرة على الموانئ الّتي تُمكّن النّاس من تحقيق مصالحهم.
ومن موانعه: اختلال أركان الجهاد أو بعضها، أو العجز عن دفع أسبابه أو بعضها، أو اختلال شروطه أو بعضها، أو تخلّف مقاصده.
ثم قال فضيلته – حفظه الله تعالى -: “فمتى غلب على الظّنّ تخلّفُ أهداف الجهاد ومقاصده؛ لاختلال أو تخلّف ما ذكرنا من الأركان أو الأسباب أو الشّروط؛ لزم اجتنابه، ويتأكّد اجتنابُه إذا غلب على الظّنّ حصولُ ما يناقض مقاصده، كزيادة المفسدة على الدّين، أو النّفس، أو العرض، أو الذّرّيّة، أو المال، أو اغتصاب الأرض، فضلًا عن تدمير مقوّمات الحياة”.
وضرب لذلك مثالا بما حدث في الضفة والقطاع قبل السابع من أكتوبر من وقائع كثيرة، كان رد فعل العدو عليها عنيفًا؛ إزهاقًا للأرواح، وإسالة للدماء، وتدميرًا في المجتمع، فكيف بحادث كبير مثل السابع من أكتوبر؟ ألا يكون في ذلك تيسيروتمكين من تقدير الأمر وقياس رد فعل العدو لدى الساسة؟ يقول الشيخ.
ولكي يُطَئمن فضيلةُ الشيخ سلمان قارئه لما قدمه بشأن رعاية أركان الجهاد وشروطه ومقاصده وأسبابه، أورد عليه أدلة من الكتاب والسنة:
فمن كتاب الله تعالى قوله: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 66]. قائلا: أفادت الآية بمنطوقها وجوب ثبات المؤمنين عند لقاء عدوّهم في حال كون عدوّهم ضعفهم أو أقلّ من ذلك، وأفادت الآية بمفهومها: إذا كان أهل الحرب فوق ضعف المؤمنين؛ جاز للمؤمنين الفرار مطلقًا؛ لتحرّف أو تحيّز، أو لمجرّد السّلامة والعافية؛ لأنّ كثرة العدد مظنّة القوّة الغالبة، وتخلّف أهداف الجهاد؛ فكان الإذن بالفرار مطلقًا، ولا يعدّ فرارًا مؤثّمًا؛ لمفهوم الآية.
ويستدل لذلك من السيرة النبوية بأن النبي ترك جهاد الكفار في مكة، والسنة والنصف الأولى في المدينة، وليس لذلك تفسير – في نظر فضيلته – إلا تخلفُ مقاصد الجهاد، إضافةً إلى الحاجة الملحة في تحقيق فهم الدين في صدور المؤمنين، وتوثيق صلتهم برب العالمين، ونفي رواسب الجاهلية.
ثم أورد فضيلته نصوصًا من كلام الفقهاء: ابن عابدين، والعز بن عبد السلام، والرافعي، والشيرازي، والخطيب الشربيني، وابن جزي، والشوكاني، تقضي بأن الإمام يبعث سرية كل عام مرة أو مرتين إذا غلب على ظنه أنه يكافئهم وإلا فلا يباح قتالهم، وأن انهزام المسلمين أمام الكافرين جائز إذا زاد الكافرون على ضعف المسلمين ولم يُحدث المسلمون فيهم أي نكاية، وأنه لا يجوز الثبات إذا كان فيه الهلاك المحض دون تأثير لهم في نكاية بالعدو.
وعن إدارة الأمر على عدد الشهداء من القادة والمقاتلين قال فضيلته إن هذا غير صحيح؛ لأن وظيفة القادة إنما هي تحقيق مصالح الناس ودفع الشر عنهم، والشريعة لا تكلف إلا بالمستطاع، وقد جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد.
وعن الخسائر التكتيكية والاستراتيجية، فسَّر الخسائر التكتيكية لنا بأن خسائرنا في غزّة والضّفّة وسيلة من وسائل مقاومتنا الّتي تقودنا إلى النّصر، وهي يسيرة إذا قورنت بخسائر عدوّنا، سيّما أنّها مخلوفة ما دام النّساء يلدن، وأهل الإحسان والمعروف يقيمون ما ذهب من العمران، ويعوّضون ما هلك من الأموال!، ورد عليه هذا القول بأنه ليس له فيه سلف؛ مستدلا بحديث النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي أخرجه الترمذي بسند صحيح: (لا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أنْ يُذِلَّ نَفسَهُ) قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قال: (يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ).
كما فسر الخسائر الاستراتيجية للعدو – ساخرًا – بأنه افتضح أمرهم وظهرت للعالم حقيقتهم، ورُفعت عليهم قضايا أمام المحاكم الدولية والمؤسسات الحقوقية، وما حدث في الجامعات الأمريكية والأوربية، مما أسهم في الحد من هلاك النفوس وإيقاف الحرب!!
وعن أصحاب الأخدود، رأى أنه فهم لا يستقيم؛ لأن الغلام كان يعيش بين قوم كافرين، فلما اهتدى مارس عليه الملكُ أساليب هي قاتلتُه لا محالة، فاستثمر الغلام هذه الفرصة وفعل ما فعل لاستلفات أنظار الناس ودعوتهم للتفكير في الإيمان، فكان ما كان، ثم إن الاستشهاد بأصحاب الأخدود شرع لمن قبلنا، موردًا خلاف العلماء حوله، وأنه لو سلمنا بحجيته فلا يصح الاستشهاد به للفارق القائم، وأورد كلام ابن تيمية: “فلا رأي أعظم ذمًّا من رأي أريق به دم ألوف مؤلّفة من المسلمين، ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين، لا في دينهم ولا في دنياهم، بل نقص الخير عمّا كان، وزاد الشّرّ على ما كان”([1]). وهو كلام له سياقه في اجتهاد علي كرم الله وجهه مع أهل صفين واليمن وموقفه من الخوارج، ولا علاقة له بجهاد دفع أو طلب؛ فضلا عن تنزيله على نازلة طوفان الأقصى.
وعن تصريح أحدهم أن رأس مالهم هو الشعب الفلسطيني، يقول فضيلته: “أليس هذا التّعبير يشي بأنّ الإنسان في غزّة ملك لهذا ولأصحابه، وأنّه غافل عن أمانة الإنسان وكرامته، فلا عليه لو مضى في طريقته ولو أودت بهلاك مائة ألف نفس، ولم يتّعظ أنّ طريقته لم تحقّق أيّ هدف من أهداف جهاده المعلنة؛ بل تعاظمت مفاسدُها عمّا كانت عليه سلفًا”.
وعن قول أحد الساسة إن مسئولية الشعب منوطة بالاحتلال، يقول فضيلته: “وهذا تعبير يشي بالتّنصّل من مسؤوليّة حفظهم، الأمر الّذي يبرّر لهم جهاد عدوّهم مع صرف النّظر عن حجم الخسائر أيّاً كانت في الأنفس، أو الأعراض، أو الحرّيّات، أو الممتلكات؛ لكونها ليست ضمن مسؤوليّاتهم، والحقّ أنّ إدارة القطاع تحت سلطانهم وضمن مسؤوليّاتهم، وهم مكلّفون شرعاً باجتهاد صالح يتحرّون به حفظ مصالح قطاعهم في مناحي الحياة المختلفة”؛ موردًا أقوالا لحكماء تعبر عن أن الحكمة تقتضي النظر في العواقب والمآلات، لا سيما إن كان حاله كحال المقاومة في غزة.
وناشد الساسة أن يتقوا الله تعالى، وأنهم مسئولون أمامه، ويجب أن يشكلوا حكومة توافقية ويوقفوا هذه الحرب؛ لأنه لا يوجد أعز أمانة بعد الدين من حفظ النفس، وألا يُذْعِروا العدو على المسلمين فيَنتهك حرماتهم ويدمر مجتمعاتهم، وأن فرط الشجاعة لا يجوز أن يصرفنا عن فداحة المفاسد الحاصلة بإذعار العدو، موردًا كلامًا لسيدنا عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- أنه منع أن يُؤمّر البراء بن مالك -رضي الله عنه- على الأجناد؛ لفرط شجاعته؛ كي لا يقتحم بالجند المهالك والأخطار، وأن الإمام الشّافعيّ قال: «ولا ينبغي أن يولّي الإمام الغزو إلّا ثقةً في دينه، شجاعًا في بدنه، حسن الأناة، عاقلًا للحرب، بصيرًا بها غير عجل، ولا نزق.. ولا يحمل المسلمين على مهلكة بحال”. وختم الشيخ مقالته -التي حاولت اختصار أبرز أفكارها- بدعائه الله تعالى أن تنزل مقالته من قلوب الساسة منزل القبول.
********
والحق أنني ما كنت أريد أن أكتب في مناقشة فضيلة الشيخ سلمان، وظننت أن مقالته ستمضي وتمر مع الأحداث، ولكن الحاصل هو العكس، فقد أثارت هذه المقالة ضجة كبيرة، وأحدثت بلبلة في صفوف أبناء غزة، وبين طلبة العلم والعلماء في الداخل والخارج، واحتفل بها الإعلام الصهيوني والغربي، وما يزال؛ وذلك لما استعرضه فيها فضيلته من أوجاع وآلام وجراح وخسائر هي واقع لا جدال فيه، وحاصل لا إنكار له، ولما ساقه فيها من أدلة يرى أنها تتنزل على هذه النازلة العالمية الكبرى التي هي أكبر من أن نكتب فيها من أجل رد على تصريحاتٍ بعضُها غير موفق، على أن هذه التصريحات جاءت في سياقات الرد على علماء السلاطين الذين يرون وليَّ الأمر المصدر الأول والأخير للتشريع، وأغراض أخرى غير التخوين والاتهام!
وإنني – علم الله تعالى – أُجلُّ فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور سلمان الداية إجلالًا كبيرًا، فهو – كما أحسبه والله تعالى حسيبه – من أهل العلم الفضلاء، ومن أهل الزهد والورع والتقوى، وممن يحرصون على مصلحة شعوب الأمة، وهذا هو دافعه الأكبر لما كتب، كما أنه أهل البلاء والابتلاء من العدو نفسه؛ فقد وقعت قذيفة على بيته كاد يهلك فيها وأهل بيته ولكن الله سلم، وله قدمُ سبقٍ وفضلُ علمٍ عاد – وما يزال – على أجيال من طلبة العلم في غزة، وهو من فقهاء غزة الكبار، وممن يعزُّ عليَّ أن أناقشهم أو أخالفهم، ولكن الصحابة من قبلنا قد اختلفوا، والعلماء على مر التاريخ قد اختلفوا وتناقشوا، وردَّ بعضُهم على بعض، والاختلاف من سنن الله تعالى في خلقه، وما ضر قلوبَهم اختلافُهم، ولا ضرَّ العلمَ وأهلَه نقاشُهم، وإنني أكتب هذه المناقشة، كفاية عن أهل العلم في غزة؛ لأن في كتابتهم دلالة للعدو عليهم، وسبيل لتعرفه إليهم، وكتبته بيانًا للحقائق التي أراها، كما رأى فضيلته ما رأى، وتوضيحًا للأدلة الشرعية التي ساقها، وحقيقة مناط تَنزُّلها، وطبيعة المعركة الدائرة التي لا تخفى عليه ولا على أي متابع ومهتم بقضايا المسلمين؛ فضلا عن العلماء العاملين، والدعاة الصادقين الربانيين.
أولا: الأدلة التي استدل بها فضيلة الشيخ:
استدل فضيلته على رأيه الذي خلص منه إلى أن هذه الحرب غير جائزة، ويجب على من بدأها أن يوقفها، للمفاسد التي ترتبت عليها وتخلفِ مقاصد الجهاد بسبب غياب الأسباب والشروط وعدم انتفاء الموانع، بعدد من الأدلة:
منها: إيراده لأركان الجهاد وأسبابه وشروطه ومقاصده وموانعه التي بيناها سلفًا، وهي صحيحة، ولكن الحق أن جُلَّ ما ساقه الشيخ – حفظه الله تعالى – من شروط وموانع يتنزل على جهاد الطلب لا جهاد الدفع، وللقارئ أن يتأمل فقط ما جاء في الشروط، من: “تأمين الأجناد طعامًا وشرابًا ودواءً ولباسًا، وثغورًا وملاذًا آمنًا بعيدًا عن البيوت المأهولة، والأبراج المسكونة، والمدراس المزحومة، والمشافي المكتظّة، وسبل امّداد بالعدد والعتاد والأجناد، والابتعاد غاية الوسع عن الآمنين وأماكن إيوائهم، وتوفير أسباب الأمن والسّلامة للآمنين ما أمكن ذلك في مناحي الحياة المختلفة”؛ فضلا عن شرط الإيمان وصلاح النفس والإخلاص، وهو أمر خفي لا تبنى عليه الأحكام العملية؛ فضلا عن الجهاد، فهل هذه الشروط في جهاد الدفع أم في جهاد الطلب؟ البعد عن البيوت المأهولة، والأبراج المسكونة، والمدراس المزحومة، والمشافي المكتظّة؟ .. وقد علم الجميع أن ما تعيشه غزة منذ خمسة وسبعين عاما هو جهاد دفع لا جهاد طلب.
وكل الأقوال التي أوردها فضيلته عن العلماء تتعلق بجهاد الطلب، ومنها كلام ابن عابدين في إرسال الإمام سرية، إذا غلب على ظنه أنه يكافئهم، وإلا فلا يباح قتالهم، وإذا كان في قتالهم هلاك محض لهم لا يجوز القتال كذلك، ولكنهم اشترطوا عدم إحداث أي نكابة بالعدو، كما ورد في كلام ابن جزي والشربيني والرافعي وغيرهم!
وأما ما دار في حديث الفقهاء عن عدد الكافرين وجواز الفرار إن زاد عن ضعف عدد المسلمين فهو استناد إلى آية سورة الأنفال التي استدل بها فضيلة الشيخ كذلك قبل إيراد كلام الفقهاء، قول الله تعالى في سورة الأنفال: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، وقال إنها بمنطوقها تدل على وجوب الثبات على المؤمنين إذا كان عدوُّهم ضعفَهم، وبمفهومها على أن العدو إذا كان أكثر من الضعف يجوز لهم الانهزام والفرار.
وهذه الآية لا يستدل بها على واقع غزة وما تعيشه، وهو استنزال في غير محله؛ وذلك أن سورة الأنفال سورة مدنية باتفاق، وإذا كانت المدينة شهدت جهاد الدفع في أحد والخندق، فإن قياس واقع غزة عليها يبقى قياسًا مع الفارق؛ لأن فلسطين أرض محتلة، والمدينة المنورة لم تكن محتلة ولا للعدو فيها مستوطنات وحكومات وجرائم، ولا تدنيس للمسجد النبوي، ولا تقسيم زماني ومكاني له، ولا ممارسة لطقوس اليهود فيه، فهو قياس مع الفارق كما يقول الأصوليون، وقد اشترطوا تطابق الأصل مع الفرع في القياس، وإن كانت غزة تشبه أُحدًا والأحزاب في شيء من جهاد الدفع.
أما في جهاد الدفع الذي تعيشه غزة اليوم فلا تتنزل هذه الشروط التي ذكرها فضيلته، ودليل ذلك كلام الفقهاء المتواتر والمستفيض أن العدو إذا داهم أرضًا وجب وجوبًا عينيًّا على كل من في هذه الأرض مقاتلته دون النظر إلى الأعداد ولا إلى القدرة، وعلى من جاورهم فرض كفاية بما يندفع به العدو ويتحقق به الغرض؛ حتى أجمعوا على أن المرأة تخرج بغير إذن زوجها، وهذا ليس في جهاد الطلب، والعبد يخرج بغير إذن سيده، ومن شروط جهاد الطلب الحرية، وأن المرء يلزم أبويه إن كان لا عائل لهما سواه، ولابد من إذنهما، وهذا في جهاد الطلب كما ورد في السنة: “جاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ ﷺ، فاسْتَأْذَنَهُ في الجِهادِ، فَقالَ: أحَيٌّ والِداكَ؟، قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَفِيهِما فَجاهِدْ”([2]). فهل هذا الاستئذان كان في جهاد دفع أم طلب؟ لا شك أنه في جهاد طلب، وأنه كان في المدينة التي فرض فيها الجهاد، وكانت أحداثها الجهادية جهاد طلب عدا أحد والخندق.
وقد نقل ابن حزم الإجماع على سقوط الجهاد عمن عنده أبوان يضيعان بخروجه، وهذا في جهاد الطلب، قال: “واتفقوا أن من له أبوان يضيعان بخروجه، أنّ فرض الجهاد ساقط عنه”([3]).
واستدلال فضيلة الشيخ بالفترة المكية والسنة والنصف التي كانت في المدينة، وأنه يسعنا ما وسع النبي وصحابته، من الكف عن القتال والإعداد التربوي، فإنني أعجب أشد العجب أن يقول هذا الكلام رجلٌ في وزن الشيخ سلمان مارس الفقه والفتوى زمانًا طويلًا؛ إذ كيف يستدل بالفترة المكية وشهور من الفترة المدنية والجهاد لم يكن قد فُرض بعد، ومن المعلوم أن فرض الجهاد قد تأخر حتى ما بعد الهجرة، وكان الجهاد المفروض قبلها بأنواع أخرى، مثل الجهاد بالقرآن الذي نزل في سورة الفرقان وهي مكية، قال تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَجَـٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادࣰا كَبِیرࣰا﴾ [الفرقان 52]
ولماذا لا نستدل بقوله تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا لَقِیتُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ زَحۡفࣰا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ . وَمَن یُوَلِّهِمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ دُبُرَهُۥۤ إِلَّا مُتَحَرِّفࣰا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَیِّزًا إِلَىٰ فِئَةࣲ فَقَدۡ بَاۤءَ بِغَضَبࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ﴾ [الأنفال ١٥-١٦]. فتولية العدو الأدبار إذا احتدم القتال حرام إلا في حالتين: التحرف للقتال، أو التحيز إلى فئة، وكلتا الحالتين في قلب المعركة ولتحقيق الغرض في إلحاق النكاية في العدو، وإذا كان هذا التحريم في جهاد الطلب الذي يتعين على من خرج فيه، فهو في جهاد الدفع أولى وأوجب.
ولماذا لا نستدل بما وقع من خبر معركة مؤتة، وسببها أن رسول الله ـ صلى عليه وسلم ـ بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى ملك الروم، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، وكان عاملًا على البلقاء من أرض الشام ، من قِبل قيصر، فأوثقه رباطًا، ثم قدمه فضرب عنقه، وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، وهو بمثابة إعلان حرب، فاشتد ذلك على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى المسلمين، ومن ثم جهز رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جيشًا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة ، وقال: “إن قُتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة”([4]).
هل تدرون كم كان عدد جيش الروم التي كانت أكبر قوة في العالم في ذاك الزمان، وقد كان جيش المسلمين ثلاثة آلاف؟ كان المسلمون يواجهون مائتي ألف مقاتل كافر، معركة عجيبة سجلها التاريخ بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبت رياح الإيمان جاءت بالعجائب.
وهل يعد التولي يوم الزحف كبيرة من الكبائر في جهاد الطلب، ولا يكون أولى في جهاد الدفع؟ إن مواجهة العدو في جهاد الدفع لا تشترط فيه هذه الشروط التي ذكرها الفقهاء وقصدوا بها جهاد الطلب، وهذا ما جرى به كلام الفقهاء في المذاهب كافة:
فمن الحنفية قال ابن عابدين: “وفرض عين إن هجم العدو على ثغر من ثغور الإسلام فيصير فرض عين على من قرب منه، فأما من وراءهم ببعد من العدو فهو فرض كفاية إذا لم يُحتجْ إليهم، فإن احتيج إليهم بأن عجز من كان بقرب العدو عن المقاومة مع العدو أو لم يعجزوا عنها ولكنهم تكاسلوا ولم يجاهدوا، فإنه يفترض على من يليهم فرض عين، كالصلاة والصوم لا يسعهم تركه، وثم وثم إلى أن يفترض على جميع أهل الإسلام شرقًا وغربًا على هذا التدريج”([5]).
ومن المالكية جاء في حاشية الدسوقي: “ويتعين الجهاد بفجء العدو”، قال الدسوقي: “أي توجه الدفع بفجء (مفاجأة) على كل أحد وإن امرأةً أو عبدًا أو صبيًا، ويخرجون ولو منعهم الوليُّ والزوجُ وربُّ الدَّين”([6]).
ومن الشافعية، جاء في نهاية المحتاج للرملي: “فإن دخلوا بلدة لنا وصار بيننا وبينهم دون مسافة القصر فيلزم أهلها الدفع حتى من لا جهاد عليهم، من فقير وولد وعبد ومدين وامرأة”([7]).
ومن الحنابلة قال ابن قدامة: “ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع: “إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، وإذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم، وإذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير”([8]). وهذا التعيين يعني أنه لا تتنزل عليه شروط حكم جهاد الطلب لأنه فرض كفاية.
أما الإمام ابن تيمية فله كلام واضح في عدم اعتبار الشروط التي ذكرها الفقهاء وقصدوا بها جهاد الطلب، يقول: “وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعًا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يُشترط له شرط؛ بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء، أصحابنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر، وبين طلبه في بلاده”([9]).
وقال تلميذه العلامة المحقق ابن القيم – رَحِمَهُ اللهُ – : “قتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعم وجوبًا؛ ولهذا يتعين على كل أحد … وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق، ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون، فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين، فكان الجهاد واجبًا عليهم؛ لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع، لا جهاد اختيار”([10]).
فأنت ترى أن هذه النصوص قد فرقت بين جهاد الدفع وجهاد الطلب، ولم تضع شروطًا لجهاد الدفع، وإنما يكون بحسب الإمكان، ومن هنا فالأركان والشروط والموانع التي تحدث عنها فضيلة الشيخ سلمان، ونقلها عن العلماء، تتنزل جميعًا على جهاد الطلب الذي يشترط فيه ما لا يشترط في جهاد الدفع.
وهذا يشير إلى أهمية فقه التنزيل بتحقيق المناط، وهو الشطر الآخر من عملية الاجتهاد؛ حيث إن ثبوت الحكم الشرعي من مأخذه مُؤذن بالسير به نحو تنـزيله على مناطاته بالتحقيق؛ لأن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، بل أتت في الغالب بقواعد كلية وعبارات مطلقة متناولة داخلها أعدادًا غير منحصرة من الجزئيات والوقائع المتمايزة والمتشابهة في نفس الوقت، وما على المجتهد إلا أن يبذل وسعه في تنزيل هـذه المطلقات والعمومات الحكمية على الأفعال والأحداث، التي لا تقع مطلقات بل معينة زمانًا ومكانًا وشخصًا، ولا يكون الحكم مُنـزلًا عليها إلا إذا عُرف أن هـذا الحكم التكليفي سمتُه التجريد والعموم قبل مرحلة تطبيقه وتحقيق مناطه في الجزئيات، وعلى المجتهد تنزيله على متعلقه على مستوى الأنواع والعينات المشخصة؛ لتحقيق المساواة المطلوبة بين الحكم التكليفي في تجريده وعموميته، وبين الحكم التطبيقي في الواقع المتعلق به، ويتم ذلك على مرتبتين هـما: تحقيق المناط العام في الأنواع، وتحقيق المناط الخاص في إطار الأفراد([11]).
ومن المسلّم به أن العدو إذا نزل أرضًا مُسلِمة دل ذلك على ضعف المسلمين في هذه الأرض، وإلا لم يتمكن العدو منهم، ومع هذا أوجب الشرع وجوبًا عينيًّا دفع هذا العدو وجهاده، بغير إذن الإمام، وبغير إذن الزوج، وبغير إذن السيد، ولا ينظر هنا للمكافأة، ولا أن يكون عدد العدو ضعف عدد المسلمين.
قال الإمام القرطبي: “اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده، فقال القاسم بن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبد الملك من علمائنا: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة. وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل؛ لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بين في قوله تعالى: “ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله” [البقرة: 207]. وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سيُنكى نكاية أو سيُبلي أو يؤثّر أثرًا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا”([12]).
وإنني أتساءل في عجب تساؤلا عقليًّا بدهيًّا: إذا كف المسلمون أيدهم عن العدو لعدم تكافؤ القوة أو أنهم ليسوا نصفهم، فمتى ستتحرر الأرض؟ وهل سيترك لك العدو فرصة للإعداد والتكوين؟ إننا إذا فلعنا ذلك لما تحررت أرض، ولما حُفظ عرض، ولما تطهرت مقدسات، ولما انجلى العدو من أي أرض احتلها عبر التاريخ، وإنما الأمر خاضع لسنن الله تعالى وقوانين الشريعة في جهاد الدفع، فيبدأ العدو المحتل وحشيًّا والمقاومة ضعيفة، فيُحكم قبضته ويتمكن من مفاصل المكان المحتل، ثم تنمو المقاومة شيئًا فشيئًا، إلى أن تتعادل القوى، ثم تقوى المقاومة ويبدأ العدو المحتل في الضعف ثم يكون النصر المظفر .. هذا ما جرت به سنة الاحتلال والمحتلين في التاريخ، ولن يتحقق النصر إلا بهذه التضحيات على طريق التحرير، وأثناء هذه المسيرة يقع الشهداء وتحدث الجراح وتحصل الآلام، وهذا ما قرره القرآن الكريم، وتجلى مثل فلق الصبح في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي تاريخ الصحابة والمسلمين من بعده.
وأريد أن أتوقف وقفة هنا خاصة بتفصيل فقهائنا في شروط جهاد الطلب دون التفصيل فيها أو استفاضة الحديث بعدم وجود نفس الشروط في جهاد الدفع، وهذا يرجع في نظري إلى سببين: الأول: أن جهاد الدفع لا تشترط له شروط جهاد الطلب، ولهذا فصلوا في الطلب دون الدفع. والثاني – وهو الأهم – أن هؤلاء الفقهاء الكبار قد كانوا في عهد دولة إسلامية قائمة، لها قوتها المخوفة، ولها رايتها المرفوعة، ولا يغزوها عدو خارجي إلا قليلًا، وكان الجهاد القائم غالبًا هو جهاد الطلب، فاهتم الفقهاء ببيان كل صغيرة وكبيرة تتعلق به دون جهاد الدفع الذي صار على فقهاء عصرنا منذ أكثر من قرنين من الزمان الحديث عنه والتفصيل فيه، مع لأخذ في الاعتبار الفترات الضعيفة التي غزت فيها الأمةَ حملاتُ الصليبيين والتتار.
ثانيا: مسألة النكاية في العدو:
اشترط الفقهاء في كلامهم أنه يجوز الانهزام أمام العدو إذا كان في المواجهة استئصال شأفتهم بشكل كامل، وأكدوا في أكثر من نص أن ذلك أيضًا مشروط بعدم النكاية فيهم، وهذا كما قلنا في جهاد الطلب دون الدفع، فالدفع يكون بحسب الإمكان، وبحسب المتاح، ويجب على الجميع، ولا تشترط فيه شروط الطلب.
ومع هذا – ونحن في جهاد دفع لا طلب – فهل العدو الصهيوني لم تَحدُث فيه نكاية؟! هل العدو الصهيوني ليست عنده خسائر؟ هل شعب العدو الصهيوني لا يألمون كما يألم المسلمون، والله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَهِنُوا۟ فِی ٱبۡتِغَاۤءِ ٱلۡقَوۡمِۖ إِن تَكُونُوا۟ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ یَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا یَرۡجُونَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِیمًا حَكِیمًا﴾ [النساء: 104]. قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: “وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ أَيْ: لَا تَضْعُفُوا فِي طَلَبِ عَدُّوِّكُمْ، بَلْ جِدُّوا فِيهِمْ وَقَاتِلُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ أَيْ: كَمَا يُصِيبُكُمُ الْجِرَاحُ وَالْقَتْلُ، كَذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُمْ، كَمَا قَالَ: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 140] . ثُمَّ قَالَ: ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ أَيْ: أَنْتُمْ وَإِيَّاهُمْ سَوَاءٌ فِيمَا يُصِيبُكُمْ وَإِيَّاهُمْ من الْجِرَاحِ وَالْآلَامِ، وَلَكِنْ أَنْتُمْ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ الْمَثُوبَةَ وَالنَّصْرَ”([13]).
إن الذي نشاهده على الشاشات، والذي يقوم به أبطال المقاومة الباسلة لغيرُ مسبوقٍ في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ عشرات السنين، فالصهاينة قبل الطوفان كانوا إذا قُتل منهم واحد أو أسر فرد منهم أقاموا الدنيا وأقعدوها وهدموا الدنيا على رؤوس أهلها، وقايضوا الأسير الواحد بالعشرات، واليوم فإننا نرى عشرات القتلى منهم، ومن قادتهم، وما نراه من مفاسد لحقت المعسكر الصهيوني لا يمكن إنكارها، فالشعب الإسرائيلي على الأرض المحتلة كل يوم في مظاهرات ضد حكومته، والحكومة نفسها متشققة، ومجلس الحرب نفسه ليس على قلب رجل واحد، وإذا كانت بعض الجهات قدرت الذين خرجوا من قطاع غزة بعشرات الآلاف وعندهم أمل العودة، فإن الذين خرجوا من الصهاينة يقدرون بمئات الآلاف وليس لهم أمل في العودة.
ثم إن الذي سخر منه فضيلة الشيخ من تغير في الرأي العام العالمي، لا ينبغي أن يكون موضع سخرية، من مظاهرات الجامعات الأمريكية والأوربية وتغير الرأي العام، فإن المجتمعات الأمريكية والأوربية لم تعد بعد طوفان الأقصى كما كانت عليه، ولا صورة “إسرائيل” أصبحت كما كانت، لا سيما بعد تجاوز هذا الكيان المجرم كل القوانين الدولية وضرب بها عرض الحائط، ولا يؤمن إلا بالدم، والدم فقط، ولهذا تقف له المقاومة بالمرصاد، على قلة مواردها، ومدادها وإمدادها، واستمدادها وامتداداتها، وبهذا تكون الخسائر قد تحققت والنكاية قد حصلت في معسكر العدو على صعيد الماديات والمعنويات؛ فضلا عن إحياء الأمة كلها وبث روح الجهاد والأمل في نفوسها، والأمر خاضع لسنن الله تعالى في الاحتلال والمقاومة.
ثالثا: الخسائر الواقعة في صف المسلمين:
لقد أورد فضيلة الشيخ سلمان في مقالته من الخسائر ما يُقطّع القلب، ويُذهب النفس حسرات، فلا أحد ينكر ما وقع للمسلمين على أرض فلسطين من فقدٍ في الأرواح، وإسالة في الدماء، وتهديم للبنية التحتية للمجتمع، وحصول عاهات مستديمة في كثير ممن نجوا، بالإضافة إلى المعاناة التي يعانيها القطاع كله، والضفة معه.
ولكننا نبادر فنقول: إن هذه هي طبيعة سنن الله تعالى التي أقام عليها الحياة والأحياء، وإنه لم – ولن – تتحرر أرض بالانهزام أمام العدو لا سيما في جهاد الدفع، ولم يَنجلِ عدوٌّ بالكف عن القتال، وفي التاريخ عبرةٌ ومنهاج، ولن نذهب بكم في التاريخ البعيد، فهذا تاريخ الجزائر القريب بلد المليون شهيد، شاهد وماثل أمامنا.
اقرءوا التاريخ فسوف تجدون كل أرض تحررت قد دفعت الغالي والنفيس من دماء أبنائها وأرواح شهدائها، وأمنها وأمانها ومعاناتها وعذاباتها، ولا يوجد شعب احتلت أرضه إلا كانت التضحيات في صفوفه أضعاف الطرف الذي تعدى واحتل، لم نقرأ ولم نسمع أن خسائر العدو كانت أكثر، بل العكس هو الصحيح، ومع هذا فالنكاية في العدو حاصلة، والخسائر في معسكره قائمة، والمفاسد في جهته واقعة، لا ينكر هذا إلا من أنكر الشمس في رابعة النهار، ونحن – المسلمين – ليس عندنا إلا النصر أو الشهادة.
إن دماء إخواننا وأخواتنا، وأرواحهم، وأمنهم وأمانهم، يعز علينا ويؤثر فينا، ويقض رحتنا ومنامنا، فهم إخواننا من لحومنا ودمائنا، وهم منا ونحن منهم، ولكن شاء الله تعالى أن يصطفيهم لهذا الشرف، ويكتب عليهم القتال وهو كره لهم؛ ليصطفي منهم شهداء، ويحيى من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، وإن الله لسميع عليم.
رابعا: مآلات مقالة الشيخ سلمان وكيفية إيقاف المد:
استند فضيلة الشيخ الجليل سلمان بن نصر الداية في مقالته على “فقه المآل”، واعتبار المآلات – كما قال الإما الشاطبي – معتبرٌ مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل([14]). ورأى فضيلته أن قتال الصهاينة – في نظره – مع هذا الضعف غير مشروع، ويجب الكف عن القتال، ووقف “هذا المدّ”، ولكنه لم يتنبه إلى مآل مقالته نفسها، وفتواه تلك؛ حيث أحدثت من البلبلة في عقول الشباب ما أحدثت، وصنعت من التردد والاضطراب والإرباك ما الله به عليم، وحسبنا أن الإعلام الغربي والصهيوني قد احتفى بها، باللغة العبرية واللغة العربية معًا على منصاتهم ونوافذهم، وأضفوا على الشيخ ألقابًا وأوصافًا من قبيل “أكبر فقيه في غزة” ، “فتوى فقيه غزة”، وهو أحق بهذا لكنهم يطلقون هذه الألقاب لأغراض خبيثة تستهدف نفوس المسلمين، وتفتّ بها في عضدهم.
وإذا صح كلام الشيخ، وصح استنزال الأدلة التي ساقاها على ما قال، وما هو بصحيح كما ذكرنا – ألم يستحضر الشيخُ قبل كتابة مقالته تلك: أحوال أهالي الشهداء ماذا سيقولون؟ وأحوال أهالي المرضى والجرحى ماذا سيظنون؟ وأحوال المهجرين من بلادهم وديارهم ممن هُدمت على رؤوسهم هذه الديار وتلك الأوطان ماذا سيقولون بعدما بذلوا ما بذلوا في عمل “غير جائز”، وأحوال الأسرى وأهاليهم بعدما أسروا في معركة “غير شرعية”؟!
ولماذا لم يكتب فضيلة الشيخ مقالته تلك ويرسلها إلى قادة المقاومة، أو الذين أسماهم “الساسة”، وهو يعرف الطريق إليهم، أليس هذا أولى وأدعى للقبول الذي دعا به في نهاية مقاله من نشرها على العام، وإحداث بلبلة كبرى في صفوف المسلمين، وإحداث النكاية بأهالي الشهداء والجرحى وأهاليهم والأسرى وأهاليهم عوض إحداثها في العدو، وعوض أن يحتفل بمقالته الإعلام الصهيوني والأوربي، وأن يكتب فتاواه ومقالاته مبينًا أحكام خذلان دول الطوق، وبيان واجباتهم الشرعية بدلا من أن يثير الريبة والشكوك والندم في قلوب أهالي الشهداء والجرحى والأسرى ورجال المقاومة؟.
ولم يذكر لنا الشيخ الجليل ما هو البديل عن الامتناع عن المقاومة: هل استسلام الناس أمام الصهيونية وترك الأقصى مستباحًا؟ وترك الأسرى في سجون الصهاينة بلا رادع ولا مقابل؟ ومتى تبدأ المقاومة لهذا العدو، وما هي المعايير لهذا البدء؟ وهل العدو سيترك الناس هكذا أحرارًا آمنين إذا تركوا الجهاد؟ وماذا نفعل في الأوامر القرآنية والنبوية التي تأمر بالجهاد وتحذر من تركه بحلول العذاب وعمومه، وعدم إجابة الدعاء؟!
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ” وقتال الدفع مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به، لكن يُخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلّفون من المسلمين، فههنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يَسْلَموا، ونظيرها: أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتِلة أقل من النصف، فإن انصرفوا استولوا على الحريم، فهذا وأمثاله قتال دفع، لا قتال طلب، لا يجوز الانصراف فيه بحال، ووقعة أحد من هذا الباب”([15]).
ثم أليس في ترك العدو وإيقاف هذا المد تَجْريئٌ له على الأنفس والأعراض، وتجريء غير المسلمين على المسلمين في كل مكان، أليس دفع ذلك من مقاصد جهاد الدفع؟!
على أن الشيخ الجليل لم يدلنا على طريقة تشكيل الحكومة المتوازنة “غير حزبية” التي دعا إليها، هل ستشكل المقاومةُ الباسلة حكومةً مع عباس ، أم تشكل عبر إدخال قوات دولية على أرض غزة؟ وكيف سيتم تشكيلها والحرب لم تضع أوزارها؟ وهل هذا هو واجب الوقت أم أن واجب الوقت هو إسناد المقاومة والشد من أزرها وتحشيد الناس حولها، وبث خطاب الأمل والاحتساب للشعب الغزي، والوقوف حائط صد أمام كل من يخذلها أو يتآمر عليها أو يشكك في عملها؟
كما أن الشيخ الفاضل لم يبين لنا كيفية وقف هذا المد، وهل قصَّر “الساسة” في التجاوب مع كل سانحة وكل بادرة لإيقاف الحرب تظهر من الشرق أو الغرب، من الأقارب والأباعد، من الأعداء أو الأصدقاء؟ وإذا كان النبي صالح الأحزاب على ثمار من المدنية، فكيف يتم إيقاف الحرب بإعطاء الصهاينة مالا أو ثمارا، وهل يقبلون هذا الآن، أم أن هدفهم المعلن هو القضاء على المقاومة وإقامة دولتهم التي يريدونها من النيل للفرات، رغم أنهم لم يعودوا بحاجة لهذا الآن؛ لأن دولتهم المحتلة أصبحت أوسع من النيل إلى الفرات بفعل المطبعين والمتخاذلين المتآمرين في عالمنا العربي؟.
إنني أشهد على أن قادة المقاومة وساستها كانوا في قمة المرونة والتجاوب مع كل دعوة ومبادرة وجهت لهم، على ألا يكون ذلك على حساب حرية الشعب وحقوقه المشروعة ومصالحه المقررة.
خامسا: هل نسينا ما ورد في القرآن وأحداث السيرة؟:
إننا – نحن المسلمين – بحاجة ماسة اليوم قبل أي وقت مضى إلى العودة لهدي القرآن الكريم، واستلهام سناه واستنزال هداه، وأود في ختام المقال أن أوجه كلامي لشعب غزة خاصة، وللمسلمين عامة.
أيها الأبطال في غزة! أيها العلماء في غزة والعالم! أيا طلبة العلم والدعاة في غزة وخارجها، أي شعب غزة الأبي المرابط الصابر، نحن يحاجة للعودة إلى هدي القرآن، وسناء القرآن، وأنوار القرآن؛ ليضيء لنا الطريق، ونستعيد به العافية، مع سنة رسوله المصطفى وسيرته المشرفة.
يقول الله تعالى: ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِینَ خَلَوۡا۟ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَاۤءُ وَٱلضَّرَّاۤءُ وَزُلۡزِلُوا۟ حَتَّىٰ یَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَاۤ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِیبࣱ﴾ [البقرة ٢١٤].
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيرها: “فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم ( مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ ) أي: الفقر ( وَالضَّرَّاءُ ) أي: الأمراض في أبدانهم ( وَزُلْزِلُوا ) بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل، والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال، إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به، ولكن لشدة الأمر وضيقه قال (الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)، فلما كان الفرج عند الشدة، وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى: (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن، فكلما اشتدت عليه وصعبت، إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنةُ في حقه منحةً، والمشقاتُ راحاتٍ، وأعقبه ذلك الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء، وهذه الآية نظير قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} .وقوله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} فعند الامتحان، يكرم المرء أو يهان”([16]).
هل نسينا خباب بن الأرت الذي قال: “شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ ﷺ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ على رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتّى يَسِيرَ الرّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلّا اللَّهَ، والذِّئْبَ على غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ”([17]).
وقع هذا والنبي لايملك لهم شيئا، ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ أخذ النبي بالأسباب شيئًا فشيئًا، وكون جبهته الداخلية بالأسباب المعنوية ثم بالأسباب المادية، وأقام مجتمعًا فاضلًا، وأنشأ دولة قوية، ولو كف يده لأن قوته ليست على النصف من قوة العدو لما أقام مجتمعًا، ولا أنشأ دولة، ولا بلغ رسالة.
يقول صاحب الظلال – وما أبدع ما قال – في تفسير الآية السابقة: “هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته – سبحانه – في تربية عباده المختارين ، الذين يكل إليهم رايته، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته، وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم .
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة، إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه، من الرسول الموصول بالله، والمؤمنين الذين آمنوا بالله. إن سؤالهم: (متى نصر الله؟) ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة. ولن تكون إلا محنة فوق الوصف، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: (متى نصر الله؟). وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة ، عندئذ تتم كلمة الله، ويجيء النصر من الله: (ألا إن نصر الله قريب).
إنه مدخر لمن يستحقونه، ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية، الذين يثبتون على البأساء والضراء، الذين يصمدون للزلزلة، الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة، الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعندما يشاء الله، وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى ( نصر الله )، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله، ولا نصر إلا من عند الله”([18]).
أيها المسلمون في غزة! أيها المجاهدون القابضون على الجمر والممسكين بالسلاح! امضوا في طريقكم، ولا تلتفتوا للوراء، ولا تستعظموا تضحياتكم، الغالية علينا، في جنب الله تعالى، ولا في جنب المسرى والأسرى، واعلموا أن النصر أصبح ممكنًا، وأن تحريرها كلها أصبح متاحًا، وكونوا على يقين من كلام رسول الله أنكم الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خذلها، وأنه اصطفاكم لهذه المهمة، واجتباكم لهذه الوظيفة، ونحن معكم بكل ما نستطيع، والشعوب الأصيلة تتوق إليكم، ولا تترك سبيلًا لنصرتكم إلا أخذت به، وسوف ننسى كل هذه الآلام، ونسترخص كل هذه التضحيات، وما أعظمها، عند أول صلاة في المسجد الأقصى وهو محرر، وعند رحيل هذا العدو المجرم منكسرًا خائبًا ذليلًا مدحورًا، عسى أن يكون قريبًا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
([1]) ابن تيمية: منهاج السنة النبوية: 6/ 112
([2]) أخرجه البخاري: (3004)، ومسلم (2549).
([4]) أخرجه البخاري: (4261)، وهو من أفراد البخاري على مسلم.
([5]) حاشية ابن عابدين: 3/238، وبمثل هذا أفتى الكاساني: بدائع الصنائع: 7/72، وابن نجيم، البحر الرائق: 5/191، وابن الهمام، فتح القدير لابن الهمام: 5/191.
([6]) حاشية الدسوقي: 2/174، وبه قال الدردير: الشرح الكبير: 2/ 174، وابن أبي زيد القيرواني: الفواكه الدواني: 1/ 396.
([7]) نهاية المحتاج: 8/58، وانظر مغني المحتاج: 4/ 219.
([11]) في الاجتهاد التنزيلي: 50. د. بشير بن مولود، ويرجع الفضل في التأصيل والتفصيل في المناط العام والخاص للإمام الشاطبي.
([12]) الجامع لأحكام القرآن: 2/ 363. دار الكتب المصرية.
([13]) تفسير القرآن العظيم: 2/ 403-404. طبعة دار طيبة.
([14]) الموافقات: 5/ 177. دار ابن عفان.
([15]) الفتاوى الكبرى: 5/ 539. دار الكتب العلمية.
([16]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 96. مؤسسة الرسالة.