من معالم إنسانية الإنسان
إن من معالم إنسانية الإنسان أن يحرص على أن يشاركه الآخرون أفكاره ومشاعره، وخاصةً تلك التي استخلصها في لحظات فارقة في تقديره من أعماق ذاته، وأغوار المجهول الذي لا يرى أن سواه قد اطلع عليه، ومن هنا يكتب الكاتبون، ويتحدث المتحدثون، بل يجد الناس فيما بينهم مساحات لتبادل الأفكار والخواطر، ويتنظم بهم دوران الحياة.
ولأمرٍ ما وجد الناس في سِفر الوجوه «فيسبوك» -وأضرابه من أشكال ما يعرف بأدوات التواصل الاجتماعي عبر شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)- ضالتهم، فعبر هذه الوسائل يجدون متنفساً للتعبير عن مكنون ضمائرهم، وخلاصة رحلات غوصهم أو سعيهم بحثاً عن الجديد في بحار الفكر التي لا نهاية لها، ولا قرار، وفي ساحاتها يشعر المرء بشخصيته الإنسانية حين يجد حوله ومعه أناسي كثيرين يشاطرهم الآراء والمشاعر والآهات.
ضرورة الاختيار الحذر لذلك الآخر المشاطر
بيد أن المرء في حاجة أن يتمهل وهو يختار من يشاطره التأمل في فكرته، فهذا الشريك إن كان لبيباً ذا فهم؛ سيكون عوناً على مزيد من توسيع الفكرة وتعميقها، وإعطائها مزيداً من الزخم والقوة، ويستكشف معك بعض جوانبها الخفية، أما إن كان ضحل الفكر، ضعيف الهمة فسيعديك طبعه، فتفقد بصحبته همتك في عالم التفكر والتأمل، حتى تصدأ أدواتك التي تجوب بها تلك العوالم المجهولة، فلا تلبث ألا تجد من همتك الأولى في التفكير والتأمل ما كنت تجد من قبل، فابحث عن رفيق لحظات التفكر، واحرص أن تحسن الاختيار، وكن في أمره على حذر.
إن هذا المعنى من معاني الحاجة إلى الآخر أراه بتقديري أبعد غوراً، وأعمق أثراً من ذلك المعنى القريب الذي صاغه الشاعر في هذا البيت الشعري المتداول بين الناس كأثرٍ مشهورٍ أو حكمة سائرة:
الناسُ للناسِ من بدوٍ وحاضرةٍ بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ
أبعد من مجرد التساند الطبيعي
إن الشاعر في ذلك البيت يلتقط فكرة التساند البشري الطبيعي، وحاجة الفرد لغيره لقضاء بعض حاجاته مهما سما قدره، وعلت منزلته، فقوة الأقوياء ليست إلا محصلة لجهود شتى وضعت بأقدار الله في خدمة هؤلاء الأقوياء، وتنوع مشارب الناس وقدراتهم ومواهبهم كانت أساساً ركيناً في تنوع مهاراتهم وأعمالهم التي يتكسبون من خلالها عيشهم، ومن ثم كانت حاجة الناس للناس بهذا المعنى ضرورة من ضرورات المعاش لا يمكن الاستغناء عنها بوجه من الوجوه، بل هناك حاجة الناس إلى الناس من بُعد نفسي خالص، ولعل هذا المعنى هو ما أشارت الحكمة المأثورة عن السيد المسيح عليه السلام: «وبالناس المسرة»، فالمرء يسر دوماً بأن يكون مع آخرين يشاطرونه أفراحه وأتراحه، بل إن التائه في البيداء أو الغابات أو البحار وإن طال سبحه بلا أمل في النجاة يعود إليه اطمئنانه حين يرى أفئدة من الناس تأوي إليه أو يهوي به قدره ورجلاه إليه.
كل منا بحاجة إلى الآخر، لكن هذه الحاجات جميعاً تبدو مادية أو نفسية فطرية، أما المعنى الأول الذي صدرت به مقالي أو خاطرتي هو المعنى الآثر إلى نفسي؛ وهو الذي أرجو أن يستثير القارئ لمزيد من التأمل والاستلهام.