لم تكد تمر ساعات قليلة على إعلان سقوط نظام بشار الأسد، حتى أعلن وزير الحرب الصهيوني يسرائيل كاتس تدمير وإلحاق بلاده أضراراً كبيرة لما أسماها بـ«ذرع إيران» في سورية ولبنان وقطاع غزة، بعدما أكدت صحيفة «معاريف»، في 11 ديسمبر 2024م، بأن جيش الاحتلال دمر 80% من القدرات العسكرية السورية، وزادت بعدها النسبة إلى 90%.
القدرات العسكرية التي زعمت الصحيفة العبرية بأنها كانت تشكل تهديداً كبيراً لبلادها دفعت بالجيش الصهيوني إلى تدمير المزيد من الأسلحة الإستراتيجية السورية، مثل أنظمة الدفاع الجوي وجُل سلاح البحرية؛ لتعترف معها أغلب وسائل الإعلام العبرية بأن تدمير الجيش السوري خلق واقعاً جديداً هو الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط منذ ما يزيد على 60 عاماً.
تباهت تلك الوسائل بتمتع سلاح الجو الصهيوني بتفوق جوي كامل ومطلق على معظم مناطق الشرق الأوسط، سواء في لبنان أو سورية أو العراق أو إيران، مدعية أن الضربات الصهيونية المتوالية على الأسلحة والقدرات العسكرية السورية تعد الجانب الإيجابي لشرق أوسط جديد.
الجيش الصهيوني دمر الأسلحة الإستراتيجية السورية مثل أنظمة الدفاع الجوي وجُل سلاح البحرية
ذاك الشرق الذي صدعَّتنا به قيادات الكيان الصهيوني، من سياسيين وعسكريين، ومن قبلهم وسائل إعلام عبرية، حتى قبيل سقوط نظام الأسد، وتحديداً مع اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، في 27 سبتمبر 2024م؛ حيث رأى الكيان، آنذاك، أن المجتمع الدولي بات أمام شرق أوسط جديد.
الثابت، أن تعليق وسائل الإعلام العبرية بأن تكلفة إعادة بناء مثل القوة العسكرية السورية سيقدر بمئات المليارات من الدولارات، واستغراق أكثر من عقد من الزمن لبنائه، يعني أن هناك نية صهيونية مبيَّتة إلى إعادة سورية إلى نقطة الصفر، وخروجها من معادلة الأمن القومي العربي.
كما أن هناك حالة من التندر على عدم التدخل الإقليمي والدولي للنظام السوري قبل سقوطه، سواء إيران أو روسيا أو من ورائهما كوريا الشمالية، باعتبارها أقرب وربما الحلفاء الوحيدين لنظام الأسد البائد، فقد عجَّت وسائل الإعلام العبرية بذلك، موضحة أن هذه الأنظمة، خاصة الإيراني، تخلَّت عن نظام بشار، وتركته يواجه مصيره وحده!
الغريب أن النظام الإيراني تنصَّل من هذا الأمر، حينما اعترف حسين سلامي، القائد العام للحرس الثوري الإيراني، في 12 ديسمبر 2024م، بأنه «كنا على علم بتحركات المسلحين والتكفيريين في سورية خلال الأشهر الأخيرة، وأبلغنا المعنيين عسكرياً وسياسياً في سورية بذلك، لكن لم يكن هناك إرادة للتغيير والحرب».
اعتراف صهيوني باحتلال سورية
ويتواصل الأمر بشأن الشرق الأوسط الجديد، حينما اعترف رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو بأن بلاده تُغير وجه الشرق الأوسط، وتدمر أعداءها خطوة بخطوة، زاعماً أن «هناك حرباً وجودية فرضت علينا»، وهو الأمر نفسه الذي كرره في غزة ولبنان من قبل، أكثر من مرة.
غير أننا يجب ألا نمرر إرسال نتنياهو لرسالة مصورة للشعب الإيراني، مرور الكرام، خاصة، وهي الرسالة الثالثة له خلال الأشهر الأخيرة، زاعماً فيها باللغة الفارسية أن «إسرائيل ترغب في السلام معكم، فإسرائيل تسعى إلى السلام مع الإيرانيين، وأعلم أنكم في المقابل ترغبون في السلام مع إسرائيل»، متابعاً أن المسؤولين في طهران أنفقوا أكثر من 30 مليار دولار لدعم، بشار الأسد، في سورية، وهو النظام الذي انهار إلى غبار في غضون 11 يوماً فقط من القتال، وكأنه يُحرِّض الشعب الإيراني على قيادته، وذلك كله في محاولة لتأليب الأمور داخل إيران أيضاً.
هناك نية صهيونية مبيَّتة إلى إعادة سورية إلى نقطة الصفر وخروجها من معادلة الأمن القومي العربي
وتوالى نشر صحفيين «إسرائيليين» لجولاتهم الميدانية داخل الأراضي السورية، خاصة في قلب المنطقة العازلة، بعدما تباهوا بسقوط نظام الأسد، زاعمين بأنهم أكثر تفاؤلاً بشأن مستقبل جديد لبلادهم مع سورية، وهو المستقبل الذي اعترف به قائد عسكري صهيوني خلال رفعه لعلم الكيان الصهيوني داخل تلك المنطقة، مدعياً أن «إسرائيل» تخطط للبقاء في المنطقة العازلة مع سورية طالما لا يوجد كيان دولة شرعي معترف به في دمشق!
بدورها، أجرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية مقابلة مع القائد العسكري -لم تذكر كنيته- شدد خلالها على أن القوات «الإسرائيلية» ستبقى في هذه المنطقة حتى لا تأتي منظمات وصفها بـ«الإرهابية» وتسيطر عليها، وبأن «إسرائيل» لا تعتزم أن يكون لديها حدود أخرى مع «إرهابيين»، على حد وصفه.
اعترف نتنياهو بذلك، أيضاً، حينما أعلن باللغة العبرية أن ما حدث بشأن تعمق قواته العسكرية في سورية «احتلال»، بينما وصف الأمر باللغة الإنجليزية بـ«وجود مؤقت» في تعليق آخر له، مؤكداً انهيار اتفاقية «فصل القوات» الموقعة مع سورية، في العام 1974م، لتوَّسع «إسرائيل» احتلالها لهضبة الجولان بضم المنطقة العازلة، في وقت اعترفت صحيفة «يديعوت أحرونوت» بأن القوات الدولية المشرفة على تلك الاتفاقية الدولية «يوندوف» قد استسلمت للأمر الواقع في تلك المنطقة، وتركتها لـ«إسرائيل».
وتابع كاتس، بدوره، هذه التصريحات، مضيفاً أنه أوعز لقواته العسكرية في سورية بالاستعداد للبقاء على قمة «جبل الشيخ» بالمنطقة العازلة مع سورية خلال فصل الشتاء، بدعوى أن بقاء الجيش الصهيوني على قمة جبل الشيخ له أهمية أمنية قصوى للكيان، وهو التواجد الذي يحتاج إلى موافقة داخلية للبقاء بأريحية!
فرصة تاريخية
الشاهد أن طلب دروز وأكراد سورية المساعدة العاجلة من الكيان الصهيوني، بحسب صحيفة «يسرائيل هايوم» العبرية، في 12 ديسمبر 2024م، يشير إلى تعمق وتجذر للتواجد الصهيوني في قلب سورية، مع تحويلها إلى أقليات وإثنيات وطوائف لتصبح فيما بعد دويلات، تتحكم فيها «تل أبيب»، غير أن الصحيفة نفسها رأت أن المساعدة الصهيونية لهذه الطوائف ستواجه اعتراضاً تركياً، رغم تأكيدها لوجود حوارات سابقة وتواصل بين «تل أبيب» وأكراد سورية، الذي أضحى أقوى بكثير بعد سقوط نظام الأسد.
«إسرائيل» تخطط للبقاء بالمنطقة العازلة مع سورية طالما لا يوجد كيان دولة شرعي معترف به في دمشق!
لم تكتف الصحيفة العبرية بذلك، بل نوهت بقيادة وزير الخارجية جدعون ساعر للمسار الدبلوماسي بين الكيان الصهيوني مع كل من الأكراد والدروز في سورية، وطرح الموضوع في لقاءات مع نظرائه الأوروبيين والأمريكيين من أنه يخطب ود هذه الأقليات والطوائف، مؤكدة أن الطلب الكردي يعد فرصة تاريخية يجب على «إسرائيل» استغلالها.
وحتى يمكن بقاء هذه القوات في سورية، فإن الأمر يحتاج، أيضاً، إلى دلالة دينية ورضا وموافقة من الحاخامات؛ لذا فقد رأينا، في 13 ديسمبر 2024م، انتشار مقطع فيديو لحاخامات يهود يؤدون صلوات تلمودية مع أطفالهم من داخل الأراضي السورية التي توغل فيها جيش الاحتلال، حيث أعلن أحدهم إقامة أول بيت لحركة «حباد» الدينية المتطرفة في سورية؛ للدلالة على نية البقاء الصهيوني الأبدي في الأراضي السورية برمزية دينية خالصة، وهي الحركة التي دشنَّت لها فرعاً أو بيتاً داخل قطاع غزة، خلال الأشهر القليلة الماضية.
ومن هنا، فإن المشهد الحالي في سورية يعني أن العالم أمام شرق أوسط جديد، خاصة وأن إسقاط الأسد جاء فور تهدئة الجبهتين؛ اللبنانية وقطاع غزة، يهيمن فيه الكيان الصهيوني على مقاليد الأمور في أكثر من جبهة.